لا شك أن موسوعة المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي هي أكبر ما كُتب باللغة العربية في هذا المجال مستفيدة بكل ما كُتب وقتَ تأليفها ومضيفة على ما سبقها نتيجة لثقافة كاتبها العربي -أغلب المؤلفين في ذلك العصر كانوا أجانبًا خاصة الألمان، ولأن محور اهتمامي الأساسي هو تاريخ الأديان فقد قرأت المجلد السادس الخاص بأديان العرب قبل الإسلام كاملًا ورأيت أن ألخصه قدر استطاعتي -كما لخصنا كتابًا آخر في التاريخ السياسي للعرب قبل الإسلام- فربما يستفيد أحدهم بنقل هذه المادة العلمية على شبكة الإنترنت، وربما حاولت الإستعانة بكتب أخرى باللغة العربية ذكرت شذرات عن دين العرب قبل الإسلام.

أديان العرب

يؤكد الكاتب في هذا الفصل على أن الإحساس الديني والروحي طبيعة في كل البشر، فكل المجتمعات البشرية التي عرفناها قد عرفت الدين وتطورت أديانها بمرور الزمن،فيبدأ بالتعريفات المختلفة -الاصطلاحية- للدين عند العلماء فمنهم من من عرفهم بالإيمان بقوى تؤثر في الطبيعة -هكذا ركن واحد فقط هو الإيمان-، ومنهم من عرفه بركني الإيمان والطقوس لاستمالة القوى التي تؤثر على الكون، وتعريف ثالث يعتمد على الإيمان بوجود علاقة بين الإلهيات والبشر، وشخصيا أنا آخذ بالتعريف الذي وضعه فراس السواح وهو أن الدين له ركنان أساسيان هما الأسطورة -الإعتقاد أو الإيمان- والطقوس -العبادات المختلفة-

أما في التأصيل اللغوي لكلمة "دين" العربية فلها مرادفات عدة في اللغات الأخرى كالفارسية والإرمية والعبرانية، وقد تكون من الجذر العربي "دين" الذي يفيد معنى أن تدين لشخص ما بشيء ما، ويترتب عليها معاني كالعدل والقضاء، وهكذا جاءت في القرآن الكريم "مالك يوم الدين" أي يوم الحساب، وهي في تعريف علماء اللغة العرب تأتي بمعنى العادة والشأن ومعنى الدين الذي نعرفه، وجاءت كلمة دين في النصوص الثمودية(1) في نص يقول كاتبه أنه "على دين ود أموت" -سأكتب المرادف العربي للنصوص- وفي نص آخر يقول رجل توددًا للإله ودّ "ا ل ه د ي ن ي ق . ي د"

وهنالك عوامل عديدة تؤثر في أديان الشعوب منها العوامل النفسية للشعوب نفسها، فستجد إله شعب ما ممثلا لهذا الشعب وثقافته ونفسيته وأخلاقه -تحضرني آلهة الأوليمب- والعوامل الجغرافية والمناخية فستجد في المجتمعات الزراعية آلهة متعلقة بالزراعة والخصب والنماء لن تجدها في المجتمعات المعتمدة على الصيد وجمع الثمار -غالبا-، واقتصاد المجتمع يؤثر أيضا على الدين فالمجتمعات الزراعية تختلف أديانها عن مجتمعات الصيد وجمع الثمار -كما ذكرنا- والسياسة كذلك تختلف فمجتمع ملكي لا تتساوى آلهته مع مجتمع قبلي، والصراعات السياسية تؤثر على أديان القوم -أشهر مثال هو مصر في الفترات الأولى من تاريخها وتقلب السلطة بين الشمال والجنوب-، كما أنه كان من مظاهر التأثير السياسي أنه إذا هزمت قبيلة ما قبيلة أخرى أخذت آلهتها أسيرة عندها وكانت هكذا تخضع القبيلة المهزومة خضوعا تاما، ومن أمثلة ذلك أيضا ما كان يحاول الإسكندر فعله عندما دخل مصر وربط نفسه بآلهة مصر إخضاعا للشعب المصري، ويؤكد المؤلف على أن العرب تأثروا بمن حولهم ويرفض نظرية العزلة العربية، فيقال أن الإنسان يصور إلهه على صورته -رغم أنه يبدو أن العكس ما يقال في النصوص الدينية المختلفة-

ويوضح الكاتب أن مصادره في البحث هي ما ورد من نصوص عربية بلهجات مختلفة، وما ورد من نصوص جيران العرب، وما ذكر في القرآن الكريم عن أديان العرب وفي تفسيرات المفسرين، وما تناقلته الأجيال من شعر الجاهليين، وما ورد في كتب السير والمغازي وكتب التاريخ مثل "تأريخ مكة" التي تحدثت عن الأقوام المهزومة وآلهتهم، وما كتبه بعض المؤلفين مثل ابن الكلبي في كتابه "الأصنام" مع عدم التسليم بكل ما كُتب لتحيز الكتاب الطبيعي أو لما نحب أن نسميه في مصر "هبد" من المفسرين أو من نقلوا عنهم لعدم توفر المعلومات لديهم، فإن وجدت فهي تذكر أديان العرب في الفترة القريبة من الإسلام وتهمل البعيدة -التي أهملتها الذاكرة غالبا- مثل "المقه" إله سبأ الأكبر و"عثتر".

ويمكننا أيضًا أن نستدل من أعلام الجاهليين على أديان القوم، فلقد ذكر فيها أسماء عدة آلهة، وإن كان تطور الأسماء واللغة ترك أثره فيها، فالأعلام المركبة للعرب تتكون من أسماء الآلهة وكلمات تلي أو تسبق اسم الإله مثل: عبد، عطية، امريء، أوس، عائذ، جار، عوذ، وهب، أمت -أمة -. وهي كلها كلمات معناها مفهوم لنا فالعطية هدية وامريء أي رجل وجار مثل "جار القمر" وعوذ وعائذ من العون والمساعدة، وبعضها مجهول لأغلبنا مثل أوس، ومن أمثلة هذه الأسماء المركبة: عبد ذي الشرى وعبد سعد، وعبد قيس، وامرئ القيس -وقيس هنا اسم أحد الآلهة. وهذه الأعلام مذكورة في المؤلفات الإسلامية، لحسن الحظ، وهناك كلمات أخرى تبدأ بها الأعلام المركبة ولكنها نادرة مثل: أوس، أحمس، تيم، سكن، سعد، سلم، شرحبيل، عمرو، زيد مثل زيد اللات.

ومن التعقيد اللغوي الذي ذكرناه أن هذه البدايات للأعلام المركبة المتعلقة بالآلهة أصبحت نهايات في أعلام مركبة أخرى لا تذكر فيها الآلهة مثل عبد عمرو وعبد سعد، أو يُهمل الجزء الثاني من الاسم المركب ويبقى اللفظ الأول -غالبا يُهمل اسم الإله- مثل أوس وزيد ووهب وتيم وسعد وعبد، أو يحدث العكس ويبقى اسم الاله دون ما يسبقه، ويصير اسم قبيلة أو شخص، مثل مناف وشمس، وقيس، وهبل، وجد، وإساف ونائلة -راجع الأساطير المتعلقة بكون إساف ونائلة شخصين- وكون أسماء الآلهة أسماءً لقبائل يدل على مدى ارتباط القبيلة بإلهها حاميها ومحاربها وأبيها الأكبر. وأحيانا يبقى اللفظ الأول -مثل عبد- ويليه لفظ غير اسم الإله، مثل اسم مكان أو شخص أو جماد -هذا قد يفسر الحالة الأولى في هذه الفقرة- مثل عبد المطلب وعبد الدار وعبد الحارث، وفيها يقول العلماء أن هذه الأسماء أسماء آلهة قديمة نساها الناس وتسمى بها الاشخاص أو أنها لأشخاص اكتسبوا قدسية معينة لأفعالهم البطولية مثل ما نقول اليوم: عبد الرسول وعبد محمد، أو انها نسبة لطوطم ما.

ومن المفارقات أيضًا أن طريقة التركيب العربية للأعلام المركبة تختلف عما ذُكر في المؤلفات السريانية واليونانية، فشرحبيل العربية تُذكر في المؤلفات الأخرى معكوسة أي "إيل شرح" وهكذا "إيل كرب" و "ايل سمع"، أو أن تُذكر الأعلام المركبة تركيبا غير إضافي مثل "يدع ايل" -الفعل يليه الإيله- أو "يسمع ايل" أو "يشرح ايل" وايل أو "إل" هو أشهر إله عند الساميين، وماتت الأسماء المركبة الوثنية بمجيء الإسلام، واستبدلت أسماء الآلهة القديمة ب"الله"، وكلمة إله تقابل "إيلوه" العبرانية التي منها إيلوهيم إله اليهود، وهي صيغة جمع للتعظيم، وتقابلها الله العربية وهي تعظيم بالتعريف ويقال أصلها "إل"، ونجد ذكرها في النصوص الصفوية(2) تسبقها هاء العريف "ف.ه.ل.ه" أي فيا الله، ونجد كذلك نداء آخر فيا اللات، وهذا نتركه لحديث آخر عن ثنائية الله واللات، وتقابل كلمة الله كلمات أخرى في العربية مثل رب -تقابلها كلمات بعل وادون في اللغات السامية الأخرى- وتعني مالك أو سيد "فليعبدوا رب هذا البيت" ويقابل الرب الربة -أو بيت الربة- وهي كعبة بنجران كان يعظمها الناس، وبعل تعطي نفس معنى رب وهو اسم أحد الآلهة القديمة المسئول عن الخصب والنماء ومن تمثلاته "بعل سمين" وتعني "رب السماء"

ويقول بعض الباحثين أن العرب لم يكن لهم أساطير دينية وهذا خطأ -وإن لم يصل إلينا الكثير لأنهم لم يتركوا لنا مؤلفات أصلا- فقد كانت لهم اساطير عن نشأة آلهة مثل النجوم القلاص، والعبور والغميصاء وسهيل حول أنها كانت مجموعة نجوم انحدر أحدها فكان السُهيل اليماني، وتبعته العَبور فعبرت المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت، وأساطير عن أن الزُّهرة -كوكب- كانت امرأة حسناء ومسخت نجما، وهذه الأساطير استخرجناها مما كتبه المؤلفون المسلمون، ويمكننا استنباط القليل عن معتقدات العرب من اسماء آلهتهم مثل: ود وسمع، وذت حمم، وذات صنم، وذات بعدن، وذو قبضم، لها معاني خاصة تفيدنا في معرفة معتقداتهم -ذت حمم مثلا كان لقبا للشمس-

وأله الناس ظواهر طبيعية لتوهمهم أن بها قوى كامنة -راجع الفقرة الخاصة في نهاية المقال، فالشمس والقمر أوضح الأجرام السماوية، وتختلف أهميتهما دينيا وفقا لطبيعة المجتمع، فالمجتمع الزراعي وضع الشمس فوق القمر لارتباط الزراعة بها، بينما وضع المجتمع البدوي القمر فوق الشمس لأن به يهتد الناس وهو مصدر النور الهداية ليلا في نظر البدوي البسيط -كما كانت تقول النكتة ما فائدة طلوع الشمس والدنيا مضيئة-، ونجد ذلك في القرآن "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا" "وجعل القمر فيهن نورا..."، كما أنه اعتمد عليه البدو في حساب الشهور والسنين، كما قدس البشر جمادات أخرى أصغر مثل الحجارة والأشجار -راجع الفقرة الخاصة-

فقرة خاصة: اقتباس

من موسوعة تاريخ الأديان لفراس السواح (الشرق القديم) ص382:

وصف عبادات العرب قبل الإسلام التي تدور حول حجر منصوب يرمز للإله المعبود في كتب مثل -الأصنام- يأتي في إنسجام مع ما نعرفه عن أصول عبادات الشعوب السامية الغربية عموما، وعن نفورهم من تصوير آلهتهم بهيئة مشخصة، على الرغم من أن هذه المسألة لم تكن عندهم موضع تأمل لاهوتي، ولم تجر صياغتها في إيدلوجيا دينية. فالأصل في رؤية الشعوب السامية الغربية لآلهتها هو التنزيه لا التشبيه، والذات الإلهية في فكرهم الديني التلقائي عبارة عن قدرة مجردة غير قابلة للتوهم في شخصية محددة الملامح، وكيان مؤطر في الزمان والمكان. فالألوهة حاضرة أبدا في هذا الوجود، ولكن حضورها يشتد كثافة في نقاط معينة يوضع فيها رمز مرئي للإله، يشير إليه ولا يرسمه، يوحي بحضوره ولا يصوره، ويكون بمثابة مفصل يتصل عنده المقدس الخفي بالدنيوية الظاهر. هذا الرمز، أو الشارة القدسية، مستمد من البيئة الطبيعية، ومن أكثر هيئاتها إيحاء بالثبات والدوام، إنه النصب الحجري الذي لم يخضع لأي تشكيل، ولم يمسه أزميل نحات.

ونود أن نعضض ما تؤكده الفقرة الخاصة بكلام الدكتور جواد علي عن أن اسماء الآلهة الموجودة في النصوص مثل: ود وسمع وحكم وحلم وعلم ورحم ورحمن، ما هي إلا صفات للإله وليست أسماء لآلهة متعددة، فرحيم وحكيم وعليم وسميع كلها من صفات الله المعروفة، ويؤكد في فقرة أخرى على وجود شكل من أشكال التوحيد عند القبائل السامية البدائية، وأنه لا ينفي الاعتقاد بتعدد الآلهة، وأعتقد أنه قصد بذلك التفريد حيث هنالك فرق بين التفريد والتوحيد، فالتفريد الاعتقاد بوجود عدة آلهة ولكن إلها واحدا فقط منها هو المستحق العبادة، بينما التوحيد هو نفي لكل الآلهة الأخرى.

خاتمة

ينهي دكتور جواد علي هذا الفصل من كتابه بالتأكيد على نصائح عامة في دراسة أديان الجاهليين مثل ضرورة جمع ألفاظ الجاهليين ذات المعاني الدينية، ومراعاة اللهجات العربية والألفاظ في كل لهجة، ودراسة ظروف كل مجموعة من العرب لفهم المؤثرات الخارجية التي أثرت على دين كل منها، والاستفادة مما أقره الإسلام من شعائر سابقة في فهم دين الجاهليين، والنظر بعين النقد لا التسليم لكل ما كُتب عن الجاهليين في مؤلفاتنا الإسلامية، وضرورة تبويب تلك المؤلفات خاصة الصعب منها بإعادة هيكلتها لتلائم الدرس المعاصر، وينتهي بنظرة متفائلة في المستقبل بالنسبة لهذا المجال الشائك وإمكانية اكتشاف جديد لم يشهده هو -وقد حدث.

هذا كان ملخصا للفصل الأول من كتاب المفصل في تاريخ العرب المجلد السادس الخاص بالدين، أضفت ملاحظات شخصية وحاولت إعادة ترتيب فقرات واختصار أخرى -ويبدو أني لم أفلح فهو مفصل في النهاية- وأتمنى أن تكون هذه المحاولة قد نالت إعجابكم، فإذا حدث فقد أكمل جزءًا كبيرًا من الكتاب وأفكر في منهجية للتعامل مع محتواه الضخم، فأمامي حتى الآن منهجيتين أحدهما اتخذها فراس السواح وهي تقسيم العرب والحديث عن كل مجموعة ودينها باختصار، والثاني اتخذها الدكتور جواد علي وهي الحديث عن العرب ككتلة واحدة، وأود أن أسمع -او بالأحرى أقرأ- أية اقتراحات عن الموضوع، وآرائكم حول الفقرة الخاصة فلدي عدة أفكار تتعلق بها -حتى الآن لدي فقرتين خاصتين جاهزتين وليستا من كتاب فراس السواح- وأعتذر عن أي أخطاء إملائية أو نحوية او أسلوبية.

___________________________________________________________

(1) الثمودية هي نقوش كتبت بخط محرف من خط المسند معبرة عن عدة لهجات عربية شمالية ، وسميت كذلك نسبة لقبيلة ثمود بمدائن صالح حاليا، ونوجد تلك النقوش في جنوب اليمن وشمال شبه الجزيرة العربية حيث كانت هنالك عدة هجرات من الجنوب للشمال أشهرها الهجرة بعد تحطم سد مأرب -هذه المعلومات غير دقيقة مني لأني وجدت تعارضا بين النبذة على الانترنت وما كتبه فراس السواح-، ومن معبوداتهم المشهورة اللات والله -ثنائي إلهي مشهور عند العرب- ومناة، وبعض الآلهة العربية الجنوبية مثل عثتر وود ونكرج وسميع ونسر وذو غبت -لقب لله-

(2)الصفويون هم قبيلة عربية استوطنت منذ القرن الرابع قبل الميلاد منطقة الصفاة جنوب شرق دمشق، ونصوصها بالأبجدية اليمنية وفرع من فروع خط المسند رغم أن لغتها عربية شمالية قريبة من لهجة قريش، عبدوا آلهة عدة منها اللات -أهمهم- والله -الثنائي المشهور- في نصوص مثل "لسني بن سني بن محنن. عثر على مضارب عمه. بحث طويلا عن الكلأ فيا الله امنح السلامة لمن يسافر وساعده"، والله عند الصفويين يبدو مختلفا عن اللات، فاللات كانت لها أماكن عبادة خاصة وبيوت وكهنة على عكس الله، وعبدوا آلهة أخرى مثل رضا -الزهرة- وشمس -الشمس التي نعرفها- وشيع القوم -إله مشهور يحمي القوافل- وإثاع ثم لاحقا دخل عندهم بعل شميم الكنعاني تحت مسمى بعل سمين وذو الشرى -إله نبطي-.