التوحيد والشرك
الرأي الشائع بين أهل الأخبار والمستشرقين أن دين العرب الأصلي -خاصة الجزء الغربي- هو التوحيد -راجع الفقرة الخاصة بالجزء الأول- وبني ذلك على وجود الإله ال" أو "ايل" بصوره المختلفة عند كل العرب -يعترض البعض بأن لفظ ايل لا يعني إلها بعينه بل هو مجرد كلمة تعبر عن الإله-، ووجود ما يشبه رب الأرباب عند مختلف العرب، وآلهة أصغر عبدها العرب شفاعة وتقربا من الله، فهي الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى، وصراحة هذا الرأي يمكن تطبيقه حتى على الديانة المصرية التي تعترف دائما بوجود رب الأرباب، وهو ما وضحت سابقا أنه لا يجوز أن يطلق عليه لفظ التوحيد بل التفريد في أقصى درجاته -أشار دكتور جواد علي لرأي مشابه لاحقا في هذا الفصل وهو الإله القومي-، كما أن نظرية الموحدين الأوائل هذه تخالف ما نعرفه من طبيعة القبائل البدوية وإله كل قبيلة، ولو سرنا في هذا النهج لكان كل البشر موحدين منذ فجر التاريخ حتى اليوم -ولا أثبت أو انفي ذلك-، فيصل فراس السواح إلى أن الأصل عبادة الأم الكبرى -بالنسبة لأغلب المجتمعات التي عرفت الزراعة- ويصل بعض المستشرقين إلى أن المجتمعات القبلية عرفت الأب الأكبر بنظرة توحيدية، ويؤكد النظرية القائلة أن التفريد سبق التوحيد التدرج التاريخي الذي نجده في نصوص -تلت الميلاد- مثل ذكر الإله "ذ سموي" أي إله السموات مع الإله "تالب ريام" رب قبيلة همدان باليمن، وتحول ذ سموي إلى رب السموات والأرض لاحقا، ويقال ان هذا بتأثير من اليهودية والمسيحية -حتى اليهودية نجد فيها ما يشبه هذا التدرج-
وعبادة توحيدية أخرى أقدم من "ذ سموي" هي عبادة الرحمن باليمن -بعد الميلاد أيضا وقد تكون متأثرة باليهودية- وقد وردت في عدة نصوص في الحجاز واليمن، ولكن ما نعرفه أن أهل مكة عرفوا الرحمن كإله مختلف عن الإله الذي عبدوه -الله- في المرويات عندما قالوا "لا نعرف الرحمن ولا الرحيم" وفي روايات أخرى يبدو منهم هذا الجهل للرحمن، وهو -كما أسلفنا- صفة للإله وليس اسما لإله بعينه، ولكن الظاهر أن هذا يضرب في نظرية الصفات ويجعل الرحمن إلها مستقلا على الأقل في نظر من عبدوه عن باقي الآلهة، أو على أقل القليل في نظر من سمعوا به، وتلبية قبيلة "قيس عيلان" في الجاهلية كانت كالآتي: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك أن الرحمان، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان)) وتلبية عك كانت: (( نحج للرحمان بيتا عجبا.... مستترا مغببا محجبا)) ويبدو لنا من هذه التلبيات أن الرحمن كان قد تحول لصورة الإله الواحد قرب الإسلام بالنسبة لتلك القبائل، وهذا هو التوحيد بعينه بالنسبة لتلك القبائل، ولكنه في صورة أكبر لا يختلف كثيرا عن التفريد، فرحمن تلك القبائل كان رحمانهم فقط وليس إلها عالميا، وما زلت هذه النظرة القبلية موجودة، وهذا ما يجعلنا نشك في ان الرحمن لدى الجاهليين كان مثل الله اليوم وأنه كان إلها عالميا، ويساوي الرحمن كلمة الرحيم في العربية والتي وردت في بعض النصوص الصفوية بصيغة "هرحيم" أي "الرحيم" وقد تكون صفة أو اسم إله، ورأي دكتور جواد علي أن هذه الآلهة وغيرها كانت صفات في الأصل ومضى عليها الزمن فتحولت لأسماء أعلام.
وهنالك رأي آخر أن الشرك كان أولًا ثم التفريد ثم التوحيد، وأما الشرك لدى القبائل فطبيعي وأدلته كثيرة وأسبابه كثيرة، فلكل قبيلة إله يحميها ويساندها في الحروب، فإذا تحالفت القبائل اتحدن آلهتها -كما كان يحدث في مصر القدمية مثل آمون رع- وتنتسب تلك القبائل لهذا الإله، وهزيمة القبيلة من أسر إلهها، وكانت تلك الآلهة ترمز إليها رموز بسيطة سهلة الحمل تناسب حياة التنقل التي كانت تعيشها تلك القبائل -مثل خيمة الاجتماع عند اليهود التي كانت في الأصل متنقلة ثم استبدلت بالمعبد الثابت مع استقرارهم-، وقد تجمع القبيلة -خاصة تلك المعتمدة على التجارة- بين عدة آلهة تستوردها من مناطق حضارية أعظم بكثير -وهذا واضح في قصص عمرو بن لحى وذهابه للشام المتقدمة في ذلك الوقت للعلاج فيعجب بإلههم- فتنقل معبوداتها وأًصنامها وتدخلها في البانثيون خاصتها -كما حدث من انتقال إيزيس لليونان مثلا-، وعادة ما يقوم بهذا الإدخال سادات القبائل -مثلما حدث من إسلام قبائل كاملة بإسلام شيوخها-
ومن أنواع الشرك هي التعبد بالأصنام -الخشب والمعادن والحجارة- كرموز للإله، وعبادة آلهة أخرى، والإيمان بشفاعة آلهة أصغر مثل بنات الله -اللات والعزى ومناة الثلاثي المشهور-، ويُعتقد أنه كان بين الجاهليين من عبدوا الأسلاف فلقد أمر الرسول بتسوية القبور ونهى عن اتخاذها مساجدا، ونجد في بعض النقوش عبارات مثل "نفس وقبر" والتي تدل على إيمان العرب ببقاء النفس -الروح- في هذا الموضع -القبر- وربما لجأ البعض إلى هذه الأرواح لمساعدتها، ومن أمثلة ذلك ضريح تميم بن مر.
ويعتقد بعض العلماء أن عبادة الجاهلية الأصلية هي عبادة الكواكب في ثالوث -2 ذكور وأنثى- الشمس والقمر والزهرة -مجمع الآلهة عند الجنوبيين-، وإلهة الشمس -وعند الأنباط والتدمريين كان الشمس مذكرًا هو ذو الشرى - كانت "شمس" أو "اللات" أو "نكرح" أو "أثرة" -يرى فراس السواح أن هذا الاسم هو نفسه عشيرة الأوغاريتية وسنتحدث عنها في الفقرة الخاصة- وأحيانا يعبدونها بألقاب مثل "ذات حمم" ويرمز لها بالقرص، وإله القمر كان "ود" أو "المقه" أو "إيل" مثل "إل شرح" و "إل يبع"وتعني إيل يتلألأ ويشع، ويدعى كذلك "ورخ" و"سين" و"شهر" وكذلك يدعى باسم يدل على أنهم نظروا له كأب للقبيلة كلها مثل "أب" و"عم" ويرمز له بالثور وله صفات كذلك كرحمن وكهل وحكم، وإله الزهرة عرف ب"عثتر" أو "عشتر" -الغريب أنهم عاملوا الزهرة كذكر على عكس عرب الشمال- ويدعى "مل" وله صفات كذلك مثل "عثتر شرقن" ويرمز له بالنجمة، والأهم هنا هو القمر الأب يليه الشمس الأم ثم الابن الزهرة.
ونجد ثالوثا آخر عند التدمريين(1) ذكوري بامتياز يتكون من 3 آلهة ذكور، يتكون من "بل" الإله الأكبر، والشمس والقمر، وإله الشمس يعرف ب"يرحبول" وإله القمر يعرف ب"عجلبول" والعجل له قرنين يشبهان الهلال، وأحيانا يحل محل يرحبول إله آخر هو "ملكبول"، ومعاني أسمائهم هي شمس الإله بل، وقمر بل، وملاك -رسول- بل، وهناك إله لم يذكر اسمه لديهم يعتقد فراس السواح أنه الله -أرى أنه بل فلمَ لا؟-، والأهم هنا هو بل ثم يليه هؤلاء الثلاثة.
ونجد ثالوثًا آخر عند العرب، وهو ثالوث مؤنث، مؤلف من اللات والعزى ومناة، بنات الله، وتمثل اللات الشمس، والعزى نجمة الصباح، ومناة نجمة المساء.
وتقديس تلك الظواهر الطبيعية معروف، فمن لا يعجب من مظاهرها، ومن لا يستفيد منها؟ ونجد اختلافات بين عرب الشمال والجنوب في نظرهم للأجرام وأهميتها، فلقد قدم عرب الجنوب القمر على الشمس على عكس عرب الشمال الذين قدموا الشمس على القمر -ولم نتحدث عن عرب وسط شبه الجزيرة- وهذا نتاج الطبيعة، وهذه المقارنة تتضمن مجتمعين عرفا الزراعة والتجارة لذا سنحيد كون الشمس أساس الزراعة فيهما كما في باقي المجتمعات الزراعية الأخرى -ولم يعرفاها بقدر كبير فكان دائما الاعتماد الاول على التجارة والحرب-، فنجد الشمس مؤنثة وتوصف ب"ذت حمم" في الجنوب فلقد كان حرها شديدًا عليهم فطبيعي أن يفضلوا القمر عليها وهو من يرشد وينير، وفي الشمال لم يكن حر الشمس بتلك الشدة فنجدهم وضعوها في نفس مرتبة القمر إن لم تكن أعلى، أو كما يقول جواد علي فشمس الشمال كانت تساعد على نمو النباتات وتقتل شمس الجنوب النباتات، وفي المجتمعات الزراعية كالبابليين نجد الشمس -الذكر- مقدمة على القمر عكس مجتمعات وسط الجزيرة العربية البدوية التي قدمت القمر -الذكر-على الشمس -الأنثى-.
يرى بعض المستشرقين أن القمر هو المعبود الأساسي لدى العرب، وله أسماء كثيرة ذكرناها بالأعلى، منها شهر الذي يدل على الشهر الذي نعرفه، واما اسم القمر الذي نعرفه فلا يوجد في أي نص جاهلي نعرفه - لم أطلع على أي بحوث حديثة، ومن العرب -ونتحدث عما نقله لنا الرواة هنا وهذا على الأغلب لا يتعدى حدود وسط الجزيرة العربية- من كان اسمه "عبد شمس" وعرفها عرب وسط الجزيرة ب"الإلهة" و"ذكاء"، وكانت للعرب صلوات خاصة بها تقابل صلاة الضحى في الإسلام والتي لم ينكرها العرب على الرسول، فلقد ذكر أنهم كانوا يجلسون مستقبلين الشمس ضحى -راجع قصة الأسقع الليثي ووالده-، ويليهم في المنزلة الزهرة، وعبدت "الشعرى العبور" -كنا قد ذكرناها في الجزء الأول- وعبدوا الثريا فكانت من الأسماء "عبد الثريا" وأجرامًا أخرى يطول ذكرها، وآمنوا بالتنجيم وأثر الأجرام في الأرض.
ومن الجمادات التي تعبد بها العرب هي الأشجار -رمز الخصب والنماء- ومنها ذات أنواط الشهيرة التي طالب بعض الصحابة الرسول بذات أنواط كتلك التي عند الجاهليين، وهي شجرة خضراء عظيمة تٌعلق عليها الأسلحة والملابس ويُذبح عندها، وهنالك حالات شاذة لعبادة الحيوانات مثل الجمال والخيل.
فقرة خاصة: أصل هبل وملاحظات
هذا الإله مستورد من موآب -حسب المرويات- وأصله -وفق تفسير جورجي زيدان- هو بعل والتي تعني الرب، وأداة التعريف هناك هي الهاء، فأصبح اسمه هبعل، وسقطت العين كما أسقطها البليون والتدمريون فأصبح هبل، وهنا نلاحظ أن العرب اخذوه كاسم اله علم ولم يتعاملوا معه كصفة، وربما يعود ذلك إلى أن "بعل" صفة الإله "هدد" إله المطر والعواصف كانت قد غلبت على الأصل ذات وكانت تذكر أكثر منه، أو ربما أن العرب تعاملوا معه فعلا كصفة لله -كان المعبود الأول والأكبر حسب كلامهم نفسه- ولكن هنا تقابلنا إشكالية وهي أنه لم يدخل في أسماء الله الحسنى -مثلا- وتعامل الإسلام والمسلمون معه على أنه إله آخر، لذا الرأي الغالب في نظري أن العرب عندما أخذوه أخذوه كإله بذاته لا كصفة لإلههم -نظرية الصفات والأعلام، ويقول فراس السواح أن رب الكعبة هو نفسه هبل، وأن قريش عبدت رب الكعبة عبادة تصويرية في هيئة هبل وغير تصويرية بالكعبة نفسها، وهو في رأيي لم يرفع التناقض، وأعتقد أن قريشا رأت في هبل إلها عصريا متفوقا على غيره من التماثيل واتخذته ربا بالفعل، أما كيف وفقوا بين ذلك وبين إيمانهم بالله فالإجابة بسيطة، أن هبل رغم عظمته فهو كغيره في مواجهة معبود العرب الأول.
ملحوظة: لم تصور اللات في صورة بشرية في عصور قبل الميلاد ولكنها عبدت في صورة صخرة مربعة ولذلك كان لقبها "كعبو" وربما يفيد موضوع الصخور المربعة هذا في فهم لماذا الكعبات التي أنشأها العرب مكعبة، فربما يكون المكعب هو الشكل الأمثل لدى العرب كما كانت الدائرة عند اليونان والهرم عند المصريين القدماء.
خاتمة
سأتوقف هنا اليوم حيث أن القادم موضوع طويل رغم أنه ينتمي لنفس الفصل حتى لا يطول المقال أكثر من هذا، وأعتذر عن أي أخطاء إملائية أو نحوية أو أسلوبية، أفكر في إضافة صور للمقال.
(1) استقرت قبيلة عربية في تدمر منذ النصف الثاني للألفية الأولى قبل الميلاد وازدهرت المدينة على يدهم حتى أصبحت مدينة مهمة في القرن الأول الميلادي ثم دخلت تحت النفوذ الروماني وازدهرت فيه، ونتيجة لطبيعتها التجارية فقد حفلت بآلهة كثيرة أجنبية من كل المناطق حولها دخلت فيالمجمع الإلهي خاصتها وإن كان الأقدم هي الآلهة العربية، وأقدم آلهتها وأقواها هو "بل" ذو الأصل الكنعاني الآموري وله زوجة هي بيلتي، وكلام كثير متعب للأعصاب.
_________________________________________________________________
الجزء الأول:
التعليقات