عائدٌ إلى الحريَّة
قد سقط الكأس الآن وتحطَّمت أجزائه إلى فتاتٍ صغيرٍ من الزجاج، وتناثر في أرجاء الغرفة، هنا كانت البداية، لكن هذا التحطُّم هو مجدٌكان لأمَّةٍ عريقةٍ قادت الشُّعوب بالعلم والحكمة زمنًا طويلًا، لكنفي زماننا قد أُتلفت الكثير من الأرواح، وأصبح العالم في الخارج قبيحًا جدًا. ومن هنا بدأت كل الحكايات.
وربَّما تبقي بقايا من تلك الذكريات المُحطَّمة والعزيزة، ذكريات في زمن الوحدة، هذه الشمس البرتقالية الباهتة التي كانت تؤلمني في لحظات الغروب في ذاك الزمن، ما زِلتُ كلَّما رأيتها تذكرتُ هذا الألم.
زُرت البحر ولأول مرة وأنا في الثلاثين من عمري، رغم أن وطني شكله طوليٌّ وممتدٌ، وله جهةٌ تطلُّ على البحر الأبيض المتوسِّط، إلا أنني لا أستطيع أن أرى هذا الجزء الكبير من وطني، حدث وأن رأيتُ البحر وليس بالطريق العادية، وإنَّما بطريقة التهريب، كانتأجملُ رحلةٍ في حياتي، أجمل أيَّام حياتي هي الَّتي قضيتُها مع البحر، كانت عبارة عن يومٍ فقط، وفي أثناء عودتي إلى بلدي الصغير رأيت هناك سجن (جلبوع)، وعندما مررتُ بهذا السجن وكأنني شعرت بكل الأسرى في هذا السجن وهذه الليلة لم أرجِع إلى منامي فرحة من جمال البلاد ورؤيتي للبحر، بل إنني تحسَّرت وحزنت وكأن شيئًا في قلبي أصابه الألم لرؤيتي من يسكنون بمكانٍ مُظلمٍ ولا أحد يسمع عنهم شيئًا، وهذا السِّجن له ذكرياتٌمعي كان أبي معتقلٌ سابقٌ وكُنا نذهب إليه في هذا السجن كثيرًا،وعندما رأيت هذا السجن وكأن ذكريات الماضي قد حضرت أمامي،وتُخبرني عن مدى الوجع والألم الذي كنت أشعر به عندما تكون هناك زيارةٌ لأبي، رَغم أنَّني في الحرية إلا أنَّني كُنت أتألَّم. في طفولتي لم أتألَّم كلَّما أصبحت أكبر وأكثر وعيًا، أتذكَّر أنَّني كُنت في طفولتي ألعب حول أشجار الكينا وبين أشجار الكينا،ويستحيل أن أنسى تلك الشجرات الشَّامخة أمام السجن، كنا نلعب هناك كثيرًا نحن ومجموعة الأطفال الَّذين حالهم مثلُ حالي. عندما كبرتُ أصبح الماضي أكثر تعقيدًا، حتي أنَّني لا أتذكَّر أنَّني كنت أتألَّم حقًّأ إنما بدأت أتذكَّر ألم أبي، نعم بدأت أشعر بما يشعر به أبي من ألم.
كل هذه الامور حدثت عندما رأيت السِّجن في تلك اللَّيلة وأنا عائدة من رحلتي البحرية، كان عبارة عن صورةٍ سوداء أمامي ما عدا مربعٍ صغير مليءٍ بالإضاءة، كانت هذه الاضاءة هو السجن في ظلامٍ حالكٍ هناك، يسكنون ويقبعون من هم أبنائنا ومن هم عماد هذا الوطن، الَّذي لولاهم ما بقى للوطن ذكر.
كيف لنا أن ننسى!
شعرت بكميَّة الألم الذي يشعرون به، وأخبرت تلك التي كانت معي في المقعد كم هو مؤلم، لا أحد يعلم شعورهم، لكن هناك لنا أبناء،مؤلمٌ جدًا أن يكونوا بعيدين عن أهلهم، يعيشون في ظلامٍ حالكٍ. أخبرتُها عن مشاعري جميعها، وعن ألمي وقهري وعن وحدتي وفُقداني لأبي، ولكن اكتشفت في النهاية رَغم أنها كانت في صفي الدراسي إلَّا أنها لم تذكر أبدًا أنَّ أبي كان في السجن لمدة ثلاثة عشر عامًا، وأخذتُ نظرةً تأمليةً وقلتُ في نفسي: "لا تتعبي نفسك ليست هي الوحيدة الكثيرون لا يعلمون عن الشهداء والأسرى."
ومرت الأيام بعد هذه الرحلة، و يوجد شيءٌ بداخلي تغيَّر، أصبحتُأكثرَ حساسية، لا أعلمُ لماذا أصبحت أتألَّم من أي شيء!
بدأت أحداثُ القُدس وغرِقت فيها، وبعد هذه الأحداث أتي أبي وأخبرني القصة كاملة (قصة هروبه من السجن)، لا أعلم لماذا هذا التوقيت ولا أعلم لماذا يخبرني، رَغم أنَّه لم يخبرنا شئيًا عن السجن قط، وعندما كنتُ أطلبُ منه أن يخبرني يَستحيل أن يُخبِرني أيَّ شيء، ويتهرَّب وكأنَّنا لا نتكلَّم مع إنسانٍ أمامنا، وكأن هذه الفترة من حياته لا يريدها، ولا يريد أن يخبرنا عنها، وكأنَّه يُصارع معنا ومع الحياة لكن دون السجن ودون ألمها، ولأول مرة يخبرنا القصة كاملة.
سأُخبركم عن شعوري، أنت هنا الآن في حريتك في بيتك في أسرتك وفي زمانك، لا يوجد حلقة ضائعة تعيش وتأكل وتشرب وتعيش حريتك وتتنتقل وتتعلم وتتحرك في زمانك مع الزمن، أنت تمشي لكن، ماذا عن أخبار أولئك الذين يقبعون في السجن؟ الزمن عندهم توقف لحظة اعتقالهم، لا شيء جديدٌ سِوى المزيد من التَّحقيقات، وكلُّ حدثٍ يحدثُ بالخارج أو بالسُّجون الأخرى يؤثِّرعليهم كثيرًا سلبيًّا، فيبدأون بالمعاناة من جديد، يبدأون بالقمع يبدأون بإشعارهم بعدم الأمان والقلق، وحتى النَّوم يستحيل أن يُكمِلوا ست ساعات من النوم المتواصل لراحة الجسد. هل لك أن تتخيل أن تمر عليك أيام دون أن تنام كما العطشان إن أحببت أن تنام لدقائق كم تشتاق لتلك الساعات التي تريد أن تكملها؟ لكن للأسف لا يسمح لك أن تكمل هذه الساعات ويتكرر الحال. هذا الشعور لوحده قاتل، وما أبشع من التعذيب الجسدي إلا التعذيب النفسي، أخبرني ماذا عن شعور إنسان يخرج من السجن بعد مدة طويلة تزيد عن العشر سنوات لن أقول خمس سنوات لأن المعاناة بدأت تزداد في هذه السجون وهناك الكثير من يزيد اعتقالهم عن عشرون سنة.