حدثني أحدهم ذات مرة عن تجربة لا يُصدقها عقل، رغم أنه راغب في تصديقها... عن رجل بلا ظلال.
قال لي إن هذا الرجل كان يظهر كل يوم في الزقاق ذاته، حيث تتشابك رائحة المطر بعبق القهوة المرة القادمة من مقهى قديم. كان يجلس على طاولة خشبية مهشمة الأطراف، في زاوية يراها القليلون فقط. لم يكن أحد يعرف اسمه، ولا مصدره، لكن الزمان والمكان كانا يتوحدان حول وجوده. كان هناك، في نفس التوقيت، كل يوم. يحدق في الفراغ، وكأن الانتظار هو جوهر وجوده.
كنت أراقب هذا المشهد من بعيد، تتلاعب في ذهني أسئلة كثيرة حول طبيعة هذا الرجل الغريب. هل هو شاعر ضل دربه؟ أم عازف آلة نسي لحنه؟ أم أنه مجرد شخص اختار أن يكون غائبا، دون أن يدرك أنه غائب؟ كان يضع على رأسه قبعة سوداء تغطي نصف وجهه، بينما يده تتلاعب بولاعة قديمة، يشعلها ثم يطفئ لهيبها دون أن يكون في نيته إشعال سيجارة.
في إحدى الأمسيات، قادني الفضول أكثر من المعتاد، فاقتربت منه وجلست على الطاولة المجاورة. طلبت فنجان قهوة، وأنا أنتظر أن يتكلم. لكنه لم يفعل. كان صمته يحيط به كما لو كان جزءًا من كينونته. لم يكن غريبًا في صمته، بل كان صمتًا يحمل معه عمقًا لا يستطيع المرء استيعابه بسهولة.
همست قائلاً: — "يبدو أنك غارق في أفكارك."
رفع عينيه نحوي للحظة، ثم ابتسم ابتسامة بالكاد ارتسمت على شفتيه، وقال بصوت منخفض، كأنما ينطق بحكمة لا تطاق: — "أنا لا أفكر، أنا أبحث."
— "عن ماذا؟"
أجابني بصوت هادئ، ولكن كلماته كان لها وقعها الثقيل: — "عن ظلّي."
في تلك اللحظة، ظننت أنه يمزح، ولكن لم تكن ابتسامته كما كانت من قبل. عاد إلى سكونه، إلى الولاعة التي لا تعني شيئًا سوى أنها كانت أداة لحظات لا تنتهي. شعرت برغبة عميقة في سؤاله عن المزيد، لكنني تراجعت. شيء في هدوئه أخبرني أن بعض الألغاز لا ينبغي كشفها، وأن هناك ما يستحق أن يظل غير مفهوماً.
وفي اليوم التالي، غاب. وكذلك في الأيام التي تلت. لم يظهر، ولم يترك أي أثر.
سألت النادل عنه، فقال لي بصوت هادئ وكأنما يروي أسطورة قديمة: — "ذلك الرجل؟ كان يجيء إلى هنا لسنوات. كان دائمًا وحيدًا، لا يتحدث مع أحد. ثم اختفى، ولم يره أحد منذ ذلك الحين."
— "لكنني رأيته قبل أيام فقط!"
ضحك النادل ضحكة خفيفة، ثم وضع فنجان القهوة أمامي قائلاً: — "ربما كنت تتحدث إلى ظله، وليس إليه."
في تلك اللحظة، فهمت أن هناك شيئًا لا يمكن أن يُدركه العقل البشري. بعض الأشياء تُخلق لتظل طيَّ الغموض، وبعض الظلال لا تُرى إلا لمن يتجاوز النظر المادي. فقد تكون الحقيقة في غيابها، كما أن الظل قد يكون أكثر وجودًا في غياب من يبحث عنه.
ما رايكم
التعليقات