عندما كنت أبحث عن شئ متعلق بالـ CSS تعثرت بفيديو يتحدث عن فيلم ستوب موشن يدعى Coraline و الصورة المصغرة للفيديو تحمل عبارة أن هذا الفيلم هو تحفة فنية, لا أعلم ماذا حدث و لكني شاهدت مقطع الفيديو و عزمت على معرفة المزيد و المزيد عن هذا الفيلم, الفيلم أكثر رعبا من أن يكون موجها للأطفال و مليئ بالتفاصيل على أن يكون مجرد فيلم, التفاصيل يا صديقي ما جعلت هذا الفيلم تحفة فنية, الحبكة و القصة و الديكور و الإنتاج كلها أمور ليست بالباهظة أو المتكلفة و لكن ما جعل الفيلم عبقريا هو تفاصيل السرد, المخرج قرر أن يسرد قصة الفيلم بشكل أكثر تعقيدا و بالتعقيد أقصد أن القصة أصبحت ذات أبعاد, ذات عمق و طبقات, يمكن مشاهدة الفيلم دون الإهتمام بالتفاصيل و ستستمتع و لكن كل ما تعمقت في التفاصيل كل ما زدت تعلقا بالفيلم.
و قبل التوغل في أمر التفاصيل, أريد أن نتحدث عن القصة و كيف أنها تعطي للأشياء قيمتها, نعم بالتحديد ألاعمال الفنية, فما يفرق عملا فنيا عن باقي الأشياء أن العمل الفني يريد أن يحكي قصة, و العمل الخالد هو ما يستطيع أن يحكي قصة تدوم لأطول فترة ممكنة, فقصة أبل لازالت صالحة و تتجدد بإستمرار, فتجدها قادرة على بيع المزيد و المزيد من الهواتف, فقصة أبل قصة رجل عبقري يدعى ستيف جوبز غير العالم بهاتف تستطيع الوثوق به, بيئة مليئة بالأجهزة الأخرى التي تتكامل بسلاسة فيما بينها, قصة منتج يظهرك بمظهر الأغنياء أمام الناس, لوحة starrynight أو ليلة النجوم للفنان فينسينت فانجوخ, إكتسبت قيمته من قصة تتعدى جمال و ألوان القصة, قصة شاب في قاع الظلام بعد محاولته للإنتحار يحاول أن يقبض بإستخدام اللون والحركة على مشاعر الأمل بداخله, يرى السماء ساحة رقص للنجوم حول قمرا مضئ بحنان و هدوء, و هدوء المدينة بالأسفل كأنها لا تسمع صخب السماء كما لو أن فانسان أراد أن يقول أنا وحدي فقط من يرى كل هذا, فلا أزال أرى النور في أحشاء الظلام. و هكذا الفن التجريدي اللذي يبحث عن جوهر الأشياء ليعبر عنها بالخطوط و الألوان, يبحث عن قصة بأقل عناصر ممكنة حتى و إن كان بإستخدام إسم اللوحة. و في العمارة نجد أن ما يجعلنا نعبر البحار لنرى المباني القديمة هو لقدم القصة ليس لضخامة المبنى فيمكننا الأن بناء ما هو أضخم منها مئات المرات, و لكن لن تحمل مبانينا قصة مثل تلك التي تحملها مباني الأجداد.
ومن الممكن أن يكون أفضل تفسير لخلود القران من وجهة نظرا قصصية أن قصة القران لا تنتهي, دائمة التجدد مليئة بالتفاصيل التي تجعلها قصة ذات عمق, يشبه عمق الدهر لن ينتهي حتى تقوم الساعة, و إن شبهنا المبنى بالقصة فلما لا نشبه القصة بالمبنى و نعلق تفاصيل على جدار قصتنا, فأجمل ما سيكون في الجدار هي لوحة لها قصة عن لوحة فقط أعجبتك, فالتفاصيل في فيلم Caroline كانت تحكي قصة لا بل قصص بجانب القصة الأساسية للفيلم و أجمل ما في التفاصيل أنها قصص لم تكن لها سردية واضحة, بل تركت للخيال أن ينسج سرديته الخاصة حول تلك التفاصيل ولأن التفاصيل في الأساس كان لها قصة فكلها تفصايل مترابطة و لكن عزف مخرج الفيلم عن الإفصاح عن العلة وراء وجود تلك التفاصيل بذلك الشكل و بهذا الترتيب, ليمتلك هو السردية الأصلية بيمناه و باليسرى يشير إلينا لنستمتع بالفيلم عبر تكملة القصة بتجربتنا نحن الشخصية.
"إن تخيلت يوما أن مكتبتي ستحترق و لن يبقى لي خيار سوى إنقاذ كتابا واحد فقط, فسأختار كتاب ( رحلتي الفكرية في البذور و الجذور و الثمر )" هذا كان تعليق أحد قراء السيرة الذاتية للدكتور عبدالوهاب المسيري, وأتفق معه الكثير و الكثير من من قرأوا الكتاب و أكدوا أن هذا الكتاب تحفة فنية بإمتياز لا تتكرر كثيرا, و أجمل ما فيها هو ما كتبه الدكتور عبدالواهاب المسيري بعد العنوان مباشرة "سيرة غير ذاتية غير موضوعية" قرر أن يحكي قصته بشكل غير ذاتي فلن يحكي عن أشياء لن تفيدك مثل إسم خالته أو ماذا يحب من الطعام و غير موضوعية فلن يكون حياديا في طرح المواضيع فلن يخجل من سرد تجربته الخاصة أو تحيزاته البشرية و هذا ما أعطى قصة هذه التحفة الفنية رونقها, فالقصة هنا بشرية لأقصى درجة, بها تحيزات و أفكار و تجارب شخصية إنسانية, منها الجيد و السئ و لكن الأهم أنها إحتفظت بصوت المسيري في طياتها, أعطت للقصة عمق.
في الأخير أعتقد أن أهم مهارة يجب أن نعلمها لأبنائنا هي مهارة حكي القصص, عبر لوحة, قصة قصيرة, مسرحية أو حتى عبر كتابة بعض الأكواد, نعلمهم أن ما سيحمينا نحمل البشر من طوفان الذكاء الإصطناعي هو حكي قصتنا الإنسانية المكللة بعيوبنا و مزايانا بتحيزاتنا و تجاربنا الشخصية, و أننا لنبني مبانا خالدة يجب أن نبني مبنى ذو قصة فاتنة, آسرة, عابرة للأزمان, نبني مبانا تعبر عنا عن الطبيعة التي نعيش بها, لا داعي للمباني الزجاجية الفخمة, يكفينا مبانا مستدامة, تنصهر مع الطبيعة لا بل تتمايل كالنسيم تتخلل الطبيعة و تتخلها فلا تعد تفرقها عن الجبال أو الأشجار من حولها, مبانا تسرد قصة في كل حجر وضع "لماذا وضع هنا ؟". كنت أريد أن أطيل الحديث عن القصة و كيف أنني مفتونا بها و لكن يكفي القول بأن حتى العلوم الطبيعية لا تصف الواقع بل تحكي سرديتها الخاصة عنه فلا النسبية خطأ و لا قوانين نيوتن خطأ كلا منهما فقط حكى قصة مختلفة, سردية مميزة عن عالمنا, عالم القصة.
التعليقات