نعيشُ حياتنا في جلستين: جلسةُ انتظار الموت، وجلسة الشعور به. لن أكتب بقسوةٍ لأنّني أؤمن أنّ عيشها يكفي، في بعضِ الأحيان أتخلّص من تعبي بالكتابة عنهُ، لكنّني أجدُ نفسي بعد أن اعتدتُ الكتابة، أجدُني أتخلّص منهُ هذه المرّة بعدم الكتابة عنهُ أصلًا، بتفادي تخليده؛ أنا أعلم أنّ الكتابة تكُون بدماءٍ سوداءَ، وأسأل دائما: هل يجبُ أن نُسيِّح هذه الدماء مرّتين؟ في الواقع وعلى الرقّ أيضًا؟
لقد حدثَ ذات مرّة للمتنبّي أن وجد نفسه في غير عصره، ربّما بشكلٍ تخيّليّ في «رباط المتنبّي» (حدث فعليّا هذا، لكن أين؟)، كان الوضع قاسيًا، أرى نفسِي في ذاتِ الوضع بشكل واقعيّ هذه المرّة، ولستُ هنا (لكي لا يفهم بعضُ قصّار النظر) أقارن نفسي بمُعجز أحمد، إنّه عارٌ كبيرٌ يمسّ الأدب إن فعلتُ ذلك، وإنّما أسعى لتقريب الصورة، صورة أن تكونَ غريبًا، بحديثك وقولك، وبكلّ شيئٍ. لقد سمعتُ عنِ الكثيرين - قد تكون أنتَ القارئ واحدًا منهم، يا للسخريّة- ممّن يعتبرون أنفسهم أدباءً، لكنّهم ليسُوا من الأدب بشيئٍ، غير أنّهم يُمسِّكونَ حرفًا بآخرَ، ويربطون كلمة بكلمة حتّى يأتوا بسطورٍ مبعثرة، يُعشِّش بجوفها العدم الأدبيّ، وينام بين أسرّتها المتآكلة عجزُ الكتابة، وهم هكذا، يستسهلون الكتابة (والنشر) ويُسمُّون أنفسهم «كُتّابا»، دعني من فضلك أسأل: كُتّاب ماذا؟ دعني من فضلك لا أجيبُ. ثمّ إنّ الغول الذي استفحل ولمّ شمله من هؤلاء «الروائيّين» و«كتّاب القصص» والذين يكتبون «المقالات» وأكاد أضحكُ أنّهم يُعرِّفون أنفسهم بـ: أنا روائيّ، وقاصّ، وكاتب مقالات؛ هذا الغول يلتهمُ كلّ النصوص التي تستحقّ، ويترك في المقدّمة «الأكل السريع» لأصحاب السمنة العقليّة. هؤلاء «الكتّاب» أنفسهم هم من يعيبون الطول، واللغة، ويجعلونهما سببين رئيسيين في عدم القراءة (لكَ؟)، وكما ترى أنّ التناقض الضخم يصرخ: كُتّابٌ بلا صبرٍ في القراءة. إنّ النصّ الحقيقيّ عليه أن ينضج على نارٍ هادئة، ويجبُ أن تكون عباراته مُحكَمة ومترابطة فيما بينها، حتّى بين أوّل جملة وآخرها، سواء في مقالٍ لا يتجاوز الصفحة، أو في كتاب من خمسمائة صفحة؛ لكنّهم لا يرون مثل ما أرى، ربّما أنا أعمى في نظرهم الذي لا يرى، يرونني كذلك لأنّهم عُميان أصلًا، فكيف للأعمى أن يُحدِّد نظر المُبصر؟ عزائي أنّ نيتشه لم يَقرأ لهُ في البداية إلّا عشراتُ القرّاء، رغم أنّه نشر كتبا متعدّدة، واعتبره هؤلاء القرّاء على الأرجح مجنونا، لكن يكفي بعدها أنّه أصبح نيتشه الذي تعرِفونه الآن (آمل أنّكم تعرفونه)، والغريبُ أنّه كان عالما لغويّا في اللغة الألمانيّة، وكان يكتبُ أفكاره وهو يضربُ بالمطرقة، كلّ جملة تكون دسمة، تحمل فكرة خلّاقة وتحطّم الأصنام؛ آمل أنّ بإمكانه تحطيم هؤلاء «الكتّاب»، لكن هيهات، لا يمكنُ هذا، فهُم لم يلمسوه بالأصل ولم يقعوا تحت مطرقته، للأسف.
لقد خطَطتُ بتهكّم منذ زمنٍ بعيد: «إنّ دانتي كتب عن الجحيم والفردوس لأنّه لم يزُرهما، وها هم الآن يكتبون عن أشياءَ يجهلونها، اقتداءً بدانتي» ولم أشأ نشره خوفًا من عدم فهم القرّاء - إن وُجدوا - للقول، وبما أنّني ألقى المساحة هنا لشرحه فسأقدّم ما يجبُ (في بعض الأحيان الشرح يقتل العبارة، وفي أحيان أخرى يُمجِّدها، لا أعلم صراحة إن كنت في الأحيان الأولى أو الثانية)، على كلّ حال، كما تعلمون - أو كما لا تعلمون - أنّ دانتي حقّا لم يزُرِ الجنّة ولا الجحيم (سنستثني المَطهر من حديثنا، رغمَ أنّه لم يزره كذلك)، لكنّه كتب عنهما في «الكوميديا الإلهيّة» لأنّه قرأ كثيرًا، خاصّة في التراث المسيحيّ (هل ألهمتهُ «رسالة الغفران»؟ ليس موضوعنا)، هؤلاء الكتّاب يقتدون حقًّا دانتي الكبير في خُطاه، في الكتابة عن شيئٍ لم يُجرّبه، لكنّهم عميان كما قلنا سابقًا، لأنّهم تناسوا أنّ الرجل أتخم مخيّلته بالقراءة، فهُمِ الآن إذًا يتّبعونه في شيئٍ واحد: الكتابة في ما يجهله تجربةً، ويتناسون: الكتابة في ما يعرفه قراءةً؛ المأساة الكبرى أنّهم يكتبون فيما يجهلونه تجربةً وقراءةً، لنفترض أنّهم يقرؤون، سنقع بذلك على كيليطو حينما قال: «خصوصيّة الكتابة مرتبطة بنوعيّة القراءة» ومنهُ نعود مجدّدًا للأكل السريع، تخيَّلْ: كُتّابُ أكلٍ سريع وقُرّاءٌ لهُ في آنٍ واحدٍ، يا للعجب. إنّهم يتكاثرون أكثر من البكتيريا (قرأتُ الوصف أوّل مرّة عند طبيبٍ أديبٍ) وعلينا نحنُ أن نستمتع بمشاهدة هذا التكاثر البديع، أو أن نستخدم معهُ «المضادّات الحيويّة». أفكّر: نحنُ نكتبُ الأدبَ، هم يُخربِشون في الأدب، عزاؤهمُ الوحيد أنّ الخربشة قد تؤدّي إلى الكتابة، لكنّنا لا نعلم إنْ كانت فترة البُلوغ من الخربشة إلى الكتابة ستطول معهم. ثمّ أسأل: من نحنُ؟ إنّنا بانسياب الأفاعي ننْسلّ من جحر إلى آخر، وننبش فيه عن الفئران، كي نهضمها، وربّما هنا تكمنُ «ضروريّة وجود الفأر»: عيشُ الأفاعي.
هل ما زلتَ تفهم ذاتك؟ أم تسعى لذلك؟ يبدو السؤال فلسلفيّا تافها، فمن هذا الذي لا يفهم ذاته، لكنّ الأمرَ يحتاج إلى تعبٍ وصبرٍ في الحقيقة، حتّى تعي من أنتَ. ما يدعو حقّا للسخريّة هو أن تخدع نفسك وأنت تعلم بأنّك تفعلُ ذلك، ثمّ توهم نفسك مجدّدا بأنّك لم تخدعها سابقا ولن تفعل ذاك في المُستقبل، أشعرُ بهذا كثيرًا: الندم بعد فعل شيئٍ، كنتُ أعلم أنّني سأندم عليه، من بين ما أندم عليه، هو خداع نفسي. أفكّر مجدّدًا: لا أحد سيفهمك؟ حتّى حبيبك - إن كان موجودًا - لن يفهمك، وما به الحبيبُ؟ إنّه الفرق الشاسع بين أن تخطوَ على الطريق، وأن تصف خطوات هذا الطريق. عشت سابقًا بمقال المتنبّي:
وَهَكَذا كُنتُ في أَهلي وَفي وَطَني
إِنَّ النَفيسَ غَريبٌ حَيثُما كانا (ألا ترى أنّنا أجبنا عن السؤال السابق: أين عاش المتنبّي غريبًا عن عصره؟ يجب أن تصبر فقط).
أعيشُ ربّما الآن بحديث دوستويفسكي: «ما أنا إلّا قَملة محشوّة بأفكار فنّيّة. ذلك أنا. ولستُ شيئًا آخرَ». أعيشُ إذًا «التردّد بين النقيضين» كما قال الجُرجانيّ، «للوصول إلى اليقين» كما أردف؛ أعتقدُ أنّني وصلتُ إلى يقينِ الجلستين الأوّليّتين: جلسة انتظار الموت، وجلسة عيشه. أليس كذلك؟ كتب ألبر كامو «الغريب» وحقّا كان بطله غريبا لكن على الأقلّ بشكل مُعرَّف، أمّا حالتي فهي «غريبٌ» بنكرة بيّنة، سأختم بهذا الأخير: «إنّي لا أجد دومًا شيئًا ذا أهمّيّة أقُوله، فأصمتُ» أنا أصمتُ يا كامو، أصمتُ عكسكَ، أصمتُ بعد الثرثرة غير المهمّة.
التعليقات