سراب!
لم يعد يحتمل شدة القيظ، متهالكاً يسير وعَرَقه يعبرهُ من رأسه حتى قدميه، أكان يحسب أن شربة الماء ستغدو حلماً عسير المنال يوماً ما؟ أتوقع أن يتوه في الصحراء القاحلة فيلسعه الرمل وتشويه أشعة الشمس؟ ساعات مضت على خروجه بسيارته قاصداً مدينة السلام القصية عن العاصمة، لكنه ضلّ الطريق ليجد نفسه في عالم من الرمل الذهبي الفسيح، يحيطه من كل مكان ويقف وحده وسط الفراغ، لا يلتقط جواله التغطية ولا يسمع صياحه سوى الخواء! سيُنسَى هنا وتمر فوقه جثته الأيام وربما الضّباع والحيوانات المفترسة، هل سقط في عالمٍ خالٍ من البشر؟ ولماذا لا يسمع أحد صوته؟
أعليه أن يفعل كما في الأفلام فيستطلع شريط حياته قبل أن يخلد لنوم طويل؟ يحاول ذلك، فإذ بعمره يبدو خالياً، لا ذكرى فيه تستحق أن يواجه بها لحظة الموت، هدّأ نفسه قليلاً وعاد إلى سيارته المعطلة يبحث فيها عن أي شيء يسرّي عنه، يسليه، ما دام خرج في طريق سفر، فلم كان شديد الثقة بنجاته؟ لم يحمل إسعافات أولية، وبالكاد ملأ حقيبته ببعض الطعام، لم يبدأ بحبة البرتقال، أبقاها للنهاية كي يرويه ماؤها إن اضطره الأمر، واكتفى بازرداد قطعة الجبن ومذاق الأشياء لم يعد ينطوي على أي لذة، فاللذة تتكون بناء على الموقف الذي يتذوق اللسان فيه لا على النكهة بحدّ ذاتها.
هناك بعض الألعاب في جواله، ستلهيه عن التفكير ريثما يفرغ الشحن.
بدا أنه يستنفذ كل الفرص دون أن ينهض للبحث عن فرصة حقيقية تخرجه من سجنه أو تعرفه به على الأقل، وكأن هناك من حدد له أو فرض عليه ألا يرى سوى مدى ضيقاً لا يحيد عنه أو يحاول استكشاف ما وراءه.
كان دوماً هكذا، أبصر طفولته أمامه، مشهد يجمعه مع أمه تدور فيه حوارات شتى حول طريقته الانهزامية في التعاطي مع الأمور والخوف منها وتضخيمها:
أأنت واثق أنه لا فرصة لديك لتفوز في مسابقة الخطابة؟
لقد أزعجت الأستاذ، لن يسامحني بعد اليوم.
هل حاولت الاعتذار؟ ما هو خطؤك بالتحديد؟
لا أدري، لم أكتشف خطئي بالضبط، لكنه حدجني بنظرة غاضبة.
لعله لم يكن غاضباً منك بالذات، اذهب إليه وجرب.
سيعتبرها وقاحة مني.
إياد بني، لماذا تفكر بهذه الطريقة السوداوية المعقدة؟ لماذا تخترع في عقلك أشياء لم تحدث على أرض الواقع؟ كفّ عن المبالغة!
لكنه لم يطبق نصيحتها، وأضاع على نفسه فرصة المشاركة في المسابقة ليأتيه الأستاذ بعد مدة خائباً يهتف: لماذا لم تشارك؟ افتقدتك! فيتضح أن غضب أستاذه منه كان وهماً افترضه بينه وبين نفسه فحسب، واستمر على تلك الشاكلة، ففسدت علاقاته بالناس لخوفه من الاقتراب، كبر وعقله يعمل بهذا الأسلوب، وألفى نفسه اليوم حبيس صحراء لم يحاول الفرار منها، بل حسبها قدره المحتوم، وجزاءه على ذنبٍ ما ليس يعرفه، فراح يبحث عنه بدلاً من أن يبحث عن طريقة للخروج، وعندما لم يجد فصّل ذنباً على مقاس العقاب ولبّس ذاته التهمة.
حضرة الطبيب، هل سيكون إياد بخير؟
حالته معقدة ومتقدمة جداً للأسف، قد لا نستطيع إعادته إلى حياته الطبيعية!
هو لم يعش حياة طبيعية من قبل أصلاً، دوماً متوتر، يلوم نفسه، يبالغ في التفكير بالمقلقات، يؤلمني أنه ما زال شاباً والشبان في مثل عمره يعيشون أيامهم منطلقين ويفكرون بالمستقبل دون ذعر.
كيف بدأ الأمر معه؟ متى لاحظتموه؟
كان ملحوظاً دوماً، ولكن كان مسيطراً عليه، إياد متفوق جداً، حساس جداً ولا يقبل بالأشياء إلا كاملة.
أممم.. يطبق قاعدة الكل أو لا شيء، ويهمه الكمال إلى حد ألا يفعل شيئاً إلا بشروط مثالية إعجازية؟
نعم أيها الطبيب.
خُيّل إليه أنه سمع صوتاً ما، كأنما زاره طيف أمه وحوار غريب تجريه مع شخص ما، ولكن كيف وهو في عمق الصحراء؟
كيف وهو منبوذ هناك نكرةً منسياً، لم يقدم شيئاً لأحد ولا ترك ذكرى عند أحد بل كان بطل الانسحاب من كل المواقف جيدة وسيئة، يخاف أن يجرح، يخاف أن يشعر ويغرق في الحب، يخاف أن يخاف، ربما تتجلى له أمه لأنه أوشك على توديع الحياة، وكما تمر بخاطره فلا شك أم تمر بعدها غِنوة، الصبية التي أحبها وأضاعها كما أضاع منه كل شيء.
أ.. أ.. آنسة غنوة!
اطلعت على الملف الذي قمت بإنشائه، كان يجب أن تحدد الجمل المهمة باللون الأحمر.
أعتذر، أعتذر جداً، هذا تقصير مني، آسف.
ورغم أن الخطب لم يكن جللاً لكنه أضاف بنفسه إلى المشهد نظرات غضب في عيني غنوة لم تكن في الحقيقة موجودة، بل هو من أوجدها ثم رآها، أعلن أنه غير مؤهل للعمل والتمس العذر راحلاً وهو يحسب أن الجميع غاضبون منه، وسيسخرون منه بمجرد أن يدير ظهره.
نفض إياد رأسه من الذكرى المؤلمة، متمنياً لو أنه خبأ ذكرى جميلة واحدة تعزيه وسط هذا الحرّ.
ولكن.. كيف يظهر فجأة وجه أمه ووجه شخص بمريول أبيض؟ هل وافته في الصحراء وحدة إنقاذ؟ ومن الذي بادر وأنقذه؟
سيد إياد، سيد إياد!
من؟ هل وصلتم إلى مكاني؟ هل سوف تنقذونني؟
سيد إياد؟ أنا طبيبك النفسي الجديد، ونحن الآن في غرفة المستشفى.
لا.. أنا الآن في الصحراء، أركض خلف الماء فيتضح أنه سراب، وتريد إقناعي أن صحرائي بحد ذاتها سراب؟ أم أنني السراب بعينه؟ بالله عليكم أخبروني، هل أنا موجود؟
يلتفت الطبيب إلى الأم ويهمس: أرأيت؟ يتصور أشياء لم تحدث ويذهب بتفكيره إلى أماكن لا وجود لها، هو لا يعيش بيننا سوى بجسده، أما أفكاره ففي مكان آخر تماماً! سأطلع على حالته بتدقيق كامل لأرى كيف يمكن مساعدته وإلى أي حد.
ويخرج الطبيب ليردد إياد من فوق كرسي المستشفى ذات الجملة والممرضة تحقنه بالمهدئ:
أركض خلف الماء فيتضح أنه سراب، وتريد إقناعي أن صحرائي بحد ذاتها سراب؟ أم أنني السراب بعينه؟ بالله عليكم أخبروني، هل أنا موجود؟
بقلمي
رغد
www.facebook.com/raghadnbl