سيبقى شهر رمضان لهذه السنة للمؤمنين ذكرى خالدة في أذهانهم، حيث ألزموا فيها على إفطاره وصلاته في منازلهم، بسبب وباء كورونا الذي لا يزال يتمدد شرقا وغربا، فغابت المظاهر الرمضانية التقليدية التي كانت متصلة بمآدب الإفطار الجماعي، وصلاة التراويح والاعتكاف في المساجد، حتى الكعبة بدت حزينة بسبب تعليق صلاة التراويح والقيام فيها، بهذا نشأ نقاش ثري وطويل حول حجية إغلاق المساجد في شهر القرآن، وهو حتما ما سيكون من أهم النقاشات المستقبلية التي سوف تضيء عدة جوانب مظلمة في تاريخنا الفقهي والديني.
في هذه الأسطر سأحاول نقاش مفهوما رمضانيا هو ليس بعيدا نسبيا عن المساجد و أيضا هو محتوى في شهر رمضان الكريم ونحن نعيش لياليه هو مفهوم ليلة القدر، حيث قال فيها رب العباد- ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر-.
سؤالي هل هي ليلة قدر واحدة ؟ أي بمفهوم زمني ليلة من بين ليالي رمضان، ولماذا قال فيها نبينا محمد عليه سلم التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان ؟، وأراد أن يقرب أكثر فقال التمسوها في الأوتار.
إيماني واعتقادي في ليلة القدر أنها لا صلة لها بزمن بل فيها يبلغ أسمى وأرقى درجات الصفاء والسمو والاعتدال، وهذا لا يكون إلا بفعل مغالبة النفس والغريزة وتهذيبها وملازمة الذكر والاستغفار وتلاوة، أي فيها تحقق الاعتدال والتساوي في الأبعاد الثلاثة للإنسان وهي الروح والعقل والجسد.
وعند قوله صلى الله عليه وسلم التمسوها في الأوتار، ربما كان لعلمه أن هناك أناسا سيأتون في آخر الزمان لا يقدرون على الطاعة وبالتالي رخص لهم وقرب لهم حتى ينالوا الأجر، فهي ليلة ينتظر تحصيلها بعد عشرين يوم على الأقل من المكابدة مع النفس.
فهي ليست متاحة للجميع وليست موعدا يُدركه كل من انتظره ساهرا ذاكرا متعبدا كل العشر الأواخر، فكم ساهرا قلبه نائم وكم ذاكرا بلسانه قلبه غافل وكم حاضرا بجسده وروحه باردة باهتة فأنَّى له بليلة القدر، فتوجب على المؤمن أن يجتهد في العبادة طوال العشر الأواخر، متحريا ليلة القدر في جميع الليالي الوترية حتى يدركها ويطلبها وينال الأجر والثواب.
ليلة القدر هي مدرسة رمضانية يدركها صفوة النجباء كل حسب صفوته فقد يتفاوتون في درجتها أيام العشر الأواخر، لكن من أحسن والاجتهاد وصابر وثابر ينال أجره بإذن الله فهي ليلة خير من ألف شهر ، ومع كل هذا ثمة هناك من لن يُدركها العُمرَ كله ولو ظل يحرس ليالي الشهر كاملة.
بالمقابل نجد مفهوما أخر لليلة القدر عند بعض المسلمين حيث أنهم يتعاملون معها كالفرصة لا كالحالة يكون فيها تحصيل لأجر وصفاء للذهن وغذاء للروح، فنراهم يتكاسلون في العشرين يوم الأولى ويُقلّون من التعبّد ثم في العشر الأواخر يتزاحمون على المساجد أو يحاولون اقتناص تلك الليلة حتى من بيوتهم وهم يقيمون حتى مطلع الفجر، هؤلاء أشبه ما يكونون بخيرة كسلاء لا يبذلون جهدا في التحصيل المعرفي ثم في آخر السنة يتقدمون للامتحان مراهنين على ضرْبة حظ.
فهل نحن في هذه الليلة من صفوة النجباء أو خيرة الكسلاء؟ ما نقوله في الختام أن ليلة القَدر ما كانت لتكون خيرا من ألف شهر لو لم تكن ليلة التقاء الإنسان بعالم الكمال، لذلك يستحب الإكثار من الدعاء فيها، خاصة الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين قالت: إن أريت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال لها النبي: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني.
ومن الأفضل إحياء هذه الليلة بالقيام، والدعاء والإكثار من تلاوة القرآن وذكر الله تعالى وغير ذلك من الطاعات.