عزيزي القارئ هل تتذكر بعضا من قصص الطفولة الممتعة وأبطالها؟ هل تتذكر حينما أخبرتك "الميس" فى المدرسة أن بطل الحكاية دا طيب وكويس وكان هذا بمثابة الختم الأخلاقي الذي جعلك تتغاضى عن أي جريمة يفعلها أو أى فعل غير أخلاقي. لأن البطل ماينفعش نطلعه مش كويس، فقط لأنه بطل القصة ولأن "الميس قالت كده"!

إليك هذه القصة أولا ..

يُحكى أن مواطن كان لديه ثلاثة أبناء، الأكبر فى المرحلة الثانوية ويعاني من صعوبات في تخطي دروس اللغة العربية لرفضه حفظ قصائد المدح والذم المقررة بالمنهج لبعض شعراء اللغة "الكبار" حيث يدرك أنهم قد كتبوها نفاقا بالمدح أو انتقاما بالذم طبقا لدرجة مصالحهم مع الحاكم. أما الطفل الأوسط فى المرحلة الإعدادية "مجنون كرة" -مع دخول عصر احتراف اللاعبين- ليس لمجرد كونها لعبة يحبها إنما يعتبرها هي المستقبل ويتحدث عنها دائما بلغة الأرقام، ليصبح طموحه هو ما سوف يحصل عليه من مبالغ تصل إلى الملايين عندما يصبح لاعب مشهور، والابن الأصغر في عمر "الحضانة" طفل ذكي جدا وكثير الأسئلة، ربما أكثر من زملائه الأطفال بشكل ملحوظ، بحكم أن الأطفال يحبون استكشاف الأشياء والعوالم الجديدة عليهم، يسأل باستمرار وأحيانا يضع والديه فى مواقف محرجة حينما لا يستطيعان الرد على اسئلته التي تضرب بعض الثوابت والمُسلمات فى الصميم أو على أقل تقدير تُدهشهم حينما تكشف لهم ،على قدر بساطتها، سذاجة ما اعتادوا عليه من ثوابت صدقوها وعملوا بها حتى فى أصغر تفاصيل الحياة اليومية مثل افتراضهم أن الطفل يستطيع أن يربط "زراير المريّلة -الزي الرسمي للتلاميذ فى ذلك الوقت- بدون مساعدة، والموجودة بالخلف لسبب خفي يخص مصمم المريلة وحده! "

من أين بدأ الصدام ؟

الزوج والزوجة منفصلان، أما الزوجة مديحة "الفنانة إسعاد يونس" فتعمل دكتورة علم نفس تقوم بالتدريس فى الجامعة ومن أهم سماتها الشخصية إدعاءها الدائم بفهم كل الأمور من خلال تخصصها فى علم النفس التحليلي لتفسر كل صغيرة وكبيرة حولها من خلال علمها ومعلوماتها العلمية فتتحول إلى كتلة تنظيرية جامدة تلخص سلوك أطفالها وزوجها السابق فى بضع أعراض تؤول إلى تشخيص المرض الفلاني أو العلاني، ذلك على عكس زوجها "صلاح" الذي يقوم بدوره الفنان يحيي الفخراني، شخص يفعل ما يجول بخاطره دون أن يفكر فيه أو يفحصه أو يحسب له حسابا فهو مندفع متسرع متصالح مع هذا السلوك تحت عنوان البساطة.

كأنها منظومة تتشكل من خليط من سلوك الأب المندفع باستمرار، مع التنظيرات الجاهزة للأم التي يبدو أنها تحمل شئ من العقل، تلك التنظيرات التى تريحها وتشعرها كذبا بأن كل الأمور من حولها تحت السيطرة و "كله تمام" طالما هناك تفسير علمي وتشخيص لكل موقف لتُحوّل علمها إلى قوالب جاهزة تعالج بها مشاكل أطفالها بشكل سطحي وكأنها تحل مسابقة كلمات متقاطعة دون مراعاة أنها تتعامل مع أطفال وليس الآت.

تلك المنظومة لم تقوَ على مواجهة مشاكل الأطفال الثلاثة فى مدارسهم، ولم تصلح كبديل لمواجهة مُسلّمات المجتمع الموروثة التى يواجهونها يوميا، فلا حلول الأب أصابت ولا تنظيرات الأم أجابت على أسئلة أطفال لم يقبلوا أن يتم ضبطهم على وضعية هز الرأس بالموافقة الصامتة كما يريد أباءهم حتى دون أن يقصدوا كالآت مريحة تعمل بالأوامر السريعة دون أعطال أو تساؤل.

خلال أحداث الفيلم يتبين للمُشاهد أن سبب العراك الدائر بين الأب والأم هو اهتمامهم الزائد عن الحد بتجمُّلهم أمام أطفالهم لتحسين صورتهم باستمرار وكأنهم يمثلون أدوارا لجمهور مكون من ثلاث أطفال هم أبناءهم، ثم يشتبكان أحيانا أخرى لإثبات من منهما صاحب الرأي الأصح ومن منهما طريقته فى التربية هى الأنفع ، كل هذا ستراه في الفيلم الكوميدي الساخر "محاكمة علي بابا" إنتاج 1984م، عن قصة للكاتب الساخر المهم أحمد رجب، ويقدم الفيلم فكرته خلال بعض المواقف والأحداث التى تفجر أسئلة الأطفال -كُلاّ بطريقته وشخصيته- والتى تستهدف ثوابت المجتمع بشكل كوميدي خفيف أقرب إلى الهزل أحيانا ولكن يحمل بداخله معنى ربما لا تقوى على حمله عضلات الأفلام الجادة التى لا تحتمل جدية ما يناقشه الفيلم فيحيلها كاتبها إلى اللون الساخر لاحتضان أكثر القضايا قتامة.

الابن الأكبر وتقديس الأشخاص :

وهكذا استمرت الأم فى خداع نفسها بأنها تدرك أحوال ابناءها ومعها مفاتيح التربية الحديثة إلى أن اصطدمت بعجزها وفشلها عند تعرض ابنها -الذي يكون فى عمر المراهقة- لمحاولة انتحار بعد فشل قصة حب يظنها نهاية الدنيا، حيث يتبعها تساؤلاته عن معنى الحياة ولماذا نعيش. لتدرك الأم حينها أن التنظير السهل لم يعد مجديا أو كافيا "لسد جوع" أسئلة الابن الصادرة عن الاحتكاك بأزمات الحياة وليس عن مجرد تنظيرات عقلية. ويتضح هذا عندما واجه أمه بالسؤال "ازاى عايزين تحلوا مشكلتي وانتم ماعرفتوش تحلوا مشكلتكم مع بعض؟"- يقصد انفصال والديه- وهو نفس الابن الذي رفض حفظ قصائد "البحترى وأبو تمام" بعدما اكتشف أنهم ينافقون الحكام بالمدح وعندما لا يأخذون المقابل يذمونهم بقصائد الذم ولذلك طرده المدرس خارج الفصل بعدما قال له "انت مين انت عشان مايعجبكش هؤلاء الشعراء العِظام" وذلك بدلا من مراجعة كلام الطالب، وكأن هؤلاء الشعراء معصومون من الخطأ، واتركك لتشاهد بقية قصة الابن الاكبر بعدما لجأ لوالده ليحل له مشكلته مع قصائد اللغة العربية من خلال مشهد كوميدي يلخص واحدة من أخطر ثوابت مجتمعاتنا "تقديس الأشخاص" لدرجة تنزيههم عن الخطأ.

أما الابن الأوسط طارق فتجنب تحدي هذه الثوابت وتحايل عليها بتبني ثوابت جديدة من نوع "مشي حالك واللى تكسب به إلعب به" التى نصح بها أخيه الأكبر. ثوابت جديدة لها علاقة بمصلحته فى احتراف كرة القدم دون النظر لأي شئ آخر، ثوابت ربما تم طرحها حديثا بسوق المجتمع، وتجنب الكاتب ببراعة التركيزعلى شغف طارق بالكرة ليقصد أن يحصر حديث الطفل فقط عن العقود المالية والمبالغ التى يتقاضاها المحترفين، ثوابت من نوع آخر تبناها الابن عملا بنصائح قدوته كابتن كيمو مدرس الألعاب بالمدرسة، بغض النظر عن حبه للعبة من عدمه.

مُعضلة " علي بابا "

وما بين الابن الأكبر حيث تبنّي المبدأ بشكل عنيف يصل به الى الانعزال وجدانيا عن المجتمع، وبين الابن الأوسط طارق حيث التأقلم والتعاطي مع أي قناعات بدافع المصلحة فقط، بغض النظر إن كانت صحيحة أو مؤذية، بين هذا وذاك يقف الطفل الأصغر "كوكي" - والذي كان يقوم بدوره شادي يحيي الفخراني- حيث يسأل والده بتلقائية طفل "وليه الرجالة مابتولدش زي الستات يعني؟"، "وازاى بتقول إن الضرب جريمة، اذا كان ماما بتضربني؟"، بل طلب الطفل من أبيه أن يجرب ربط زراير القميص بعد أن يلبسه بالمقلوب، ولما لم يستطع الأب ربطها، سأل الطفل "إزاى عايزينى أربط زراير المريلة وانت مش عارف تربط زراير القميص المقلوب؟" ليكشف الموقف -على قدر بساطته- إزدواجيتهم هو وزوجته فى التعامل مع ابناءهم، وربما أدرك كيف كان يطالبهم بأشياء لا يستطيع هو نفسه فعلها؟ ، تلك الاسئلة لم تخطر لهم على بال من قبل، بحكم ما ورثوه كثوابت لا نقاش فيها ليكتشفوا أن عجزهم عن الرد إنما بسبب كشف الطفل لسذاجة الفكرة وعدم منطقيتها.

إلى أن جاء أهم أجزاء الفيلم.. حيث يفتح المشهد على "الميس" فى الحضانة والتى تحكي للأطفال واحدة من حكاوي التراث المُسلية كما عوّدتهم، حكاية " علي بابا و40 حرامي" وبينما تحكي عن "علي بابا" الذى دخل مغارة الأربعين حرامي وأخذ كل المجوهرات التي بها هو و زوجته مرجانة، تلك المجوهرات التى سبق أن سرقها الأربعين حرامي من الناس وخبأوها بالمغارة، فأوقفها الطفل سائلا " علي بابا خد كنز الحرامية اللى سرقوه من الناس وماسلمهوش للبوليس؟ يبقى علي بابا راجل حرامي؟"، فطردته الميس لاعتراضه حديثها، ومن هنا بدأت المعضلة الأخلاقية لدى الطفل في الظهور، وهو لا يدرك ما الخطأ الذى ارتكبه ليُعاقب عليه، فالكبار يقولون أمثلة وحكايات تتغنى بالفضائل ثم يفعلون افعال تضاد الأخلاق التى ينادون بها في إزدواجية واضحة، فذهب الأب إلى الحضانة فى اليوم التالي يلتمس من "المس" تغيير نهاية القصة وإعادة سرها للأطفال بأن علي بابا سلم الكنز للبوليس، فلم تقبل تغيير القصة (الخيالية) قائلة "هي كده واتعلمناها كده!" في تمسك غريب بأحداث القصة "الخيالية اصلا!"، بل ركزت فى حديثها بالأكثرعلى استياءها من عدم احترام الطفل لها حيث أنه أحرجها باسئلته أمام الأطفال، وأضافت " أنا اللي بأعلم الأطفال مش هما اللي بيعلموني" بل وأصرت أن يكرر الأطفال وراءها فى إصرار غريب أن "علي بابا راجل طيب". ما سر علي بابا ليتحول إلى معتقدا أو صنما لا يمكن هدمه، صورة مجسدة لمجتمعا يريد ويربي في أطفاله أشباه أخلاق تخص الخارج الظاهر على حساب تربية الداخل، "أخلاق الخارج" التى تنحصر فى أن الاحترام والأدب يعني بالضرورة عدم مجادلة أو مناقشة المدرس والكبير وأى سلطة عموما، بل و قيس على كده بقى كل ما يشبه ذلك من علامات التقوى والتى كثيرا ما يعشقها الإنسان منا حتى لو كانت أفعاله تنافيها على طريقة "أدب القرود"، فتعليق الطفل على الحكاية وسؤاله لمعلمته الذى جعلها ترتبك اعتبرته عدم احترام وقلة أدب، بينما "علي بابا يسرق عادي"!.

وعندما لم يجد الطفل إجابة لدى أبويه لحل المعضلة، قام بسرقة مصروف أخيه الأكبر مُقلدا "علي بابا الراجل الطيب اللي بيسرق".. فوقف حينها الأب والأم عاجزين عن إيجاد حل للخروج من هذا المأزق، إلى أن وجدوا طريقه ساذجه لتغيير نهاية القصة وإقناع الطفل أن "علي بابا هياخد جزاءه العادل عشان سرق مجوهرات الناس" وذلك من خلال خطة تتلخص فى اتفاق الأب مع الظابط بقسم البوليس– كده وكده يعني- ليقول للطفل أنهم قبضوا على "علي بابا" وهيحاسبوه، ربما لجأ المؤلف لهذه النهاية ليوضح من خلالها بشكل كاريكاتوري أن المواقف الصغيرة العابرة أمثال ما تعرضه حكاية علي بابا، والتى ربما لن يتوقف عندها الآباء فى تربية ابناءهم، يمكن أن يكون لها تأثير ملحوظ فى تكوين شخصياتهم ليس لمجرد ما بها من احداث فهي فى الاول والآخر قصة، انما لما يتسرب منها إلى الطفل عندما نجعل من "علي بابا" بطلا مُخلدا !.

أن تصنع "روبوت" ؟

مشهد هزلي من الكوميديا السوداء هو مشهد النهاية، حيث يأمر الضابط بحبس الأب لحين احالته إلى مستشفى الأمراض العقلية وعرضه عليها، وكما أظن هو مشهد كاريكاتوري لم يٌقصد به المشهد لذاته، إنما المقصود رمزيته ليشير إلى السجن الذى يصنعه أى مجتمع يتوجس ويخاف ممن يناقش مُسلّماته الهشة ويهز له ثوابت أصنامه ليعتبره مصاب بنوع من الخلل العقلي.

وأظن أنك ربما تتفق معي يا عزيزي أنه لا يوجد شخص يستطيع أن يحيا بلا ثوابت، ولكن فارق كبير بين ثوابت نابعة من قناعاته، وثوابت "علي بابا" التي ورثناها فى شكل مُسلمات وقوالب وأنماط تفكير مُحرم علينا نبشها حتى لو كان وجودها وتبنيها بيخرب علينا حياتنا.

وربما جاء إدراك الأب متأخرا ليكتشف أن هناك "علي بابا" فى كل بيت وشارع ومدرسة ومؤسسة بل وفي معتقداته هو شخصيا التى تطبع أثرها على أبناءه. ثم جاءت النهاية لتقول أن علي بابا ربما لن يُحاسب، بل وقد يخلّد الناس سيرته ويبقوه فى قلوبهم ويجعلوه تراثا ثابتا وصندوقا مغلقا غير قابل للفتح، ومن باب راحة الدماغ والضمير يجوز وضع بعض الحليات اللغوية لهذا الموروث و تعبئته فى أمثال وحواديت أو اكلاشيهات أو ربما مزجه ببعض الآيات لإحكام الغلق، وعلى الجانب الآخر هناك أصنام أحدث موديل أيضا مصنوعة من تمجيد كل ما هو جديد ومتحررة حتى من البحث عن حقيقته، فكل ما هو جديد يمكن أن يصبح صنما تماما مثل كل ما هو متخلف ومتحجر، فقط حينما يُعبد، ولا يُناقش أويُفحص حتى رغم وضوح أثار ضرره، ليست المشكلة فى زمن ميلاد الخرافة أو الصنم قديم كان أو حديث ولا المشكلة في نوع الصنم، موروث كان أو كان على أحدث موضة إنما المشكلة الحقيقية أنه قد تشكل ليصبح صنما بإيدينا نحن حينما قبلناه دون فحص، ثم أحكمنا غلقه ثم نشرنا دعوته بيننا، "علي بابا" فكرة حية إلى اليوم قادرة على التناسخ فى أي عصر لصنع "روبوتس" من البشر، تحركهم وتَحكُم حركتهم أوامر البرمجة التي سيطرت عليهم.

وأخيرا يطلق الأب نداءه بينما يُساق إلى السجن.. "حاكموا.. علي بابا، حاكموا علي بابا"

كل "علي بابا" صنعناه و آويناه داخلنا لنحيا به.