يحكي الشيخ حيدر حب الله:

قبل سنوات كنت ألقي سلسلة محاضرات حول الوضع في الحديث لمجموعة من طلاب العلوم الدينية، فنقلت لهم حديثاً حول قصّة سفينة نوح من بعض كتب أهل السنّة، وبينّت عناصر الوضع التي قيلت في هذا النقل التاريخي، وعندما كنت ألقي الحديث على مسامع الإخوة الطلاب كنت أتأمّل في تعابير وجوههم، فرأيت أنّه بمجرّد أن نقلت القصّة المرويّة عن طواف سفينة نوح حول الكعبة وصلاتها صلاة الطواف وبعض التفاصيل الأخرى، ظهرت معالم السخرية والاستهزاء والضحك على الوجوه، لقد شعروا جميعاً بأنّ هذه القصّة مختَلَقَة، ولم ألاحظ أنّ أحداً تردّد في كونها كذلك، وقد تعمّدت أن أفعل ذلك أولاً، لأقول لهم بعد ذلك بأنّ القصّة وردت بطرق الشيعة أيضاً، بل في طرق الشيعة وردت زيادة غريبة وهي أنّ سفينة نوح صعدت إلى منى، ثم رجعت فطافت طواف النساء أيضاً!

في هذه اللحظة بالذات حصل بعض الصمت، فقد فوجئ الجميع بذلك، وقال لي احد الطلاب الذين كانوا يضحكون قبل ثوانٍ: ألا يحتمل تفسير الحديث بكذا وكذا بما يرفع التهمة عنه؟! لقد تبدّل الوضع تماماً، فقبل لحظات كان العقل متحرّراً ويفكّر بدون ضغط، بل لعلّه كان مندفعاً بسبب كون الحديث من مصادر أهل السنّة، فأطلق العنان لنفسه بجرعة زائدة هذه المرّة، لكن وبمجرّد أن أدرك أنّ الرواية -وبشكل أكثر غرابة- موجودة عند الشيعة أيضاً وفي كتاب الكافي للشيخ الكليني رحمه الله، قام العقل بإعادة تموضع سريع، ليعيد إنتاج المعرفة بطريقة أخرى. لماذا؟ لأنّنا نقرأ نصوص التاريخ والحديث بطريقة أيديولوجيّة، لا بطريقة علميّة موحّدة ومنهجيّة تتعامل بأكاديميّة وحِرفيّة ونزاهة عالية مع النقل التاريخي أينما كان.

الشيخ حيدر حب الله

إضاءات ج 4 ، ص 522

❖════❖◎❖════❖

إضاءات الشيخ حيدر حب الله