الماركيز دو ساد، ذلك العبقري المنحرف، البعض نزع عنه الصفة الأولى وبالغ في الثانية، ولكن لا يمكنني سوى أن أبقي على الصفتين بعد قراءتي لهذه الرواية صغيرة الحجم التي تقع في ٢٠٠ صفحة، وبعد مقابلة أخرى معه في عمل فني سينمائي ممنوع من العرض ىأسباب قد فهمتها للأسف، وتلك العبقرية شهدتها المرة الأولى في غرابة الأفكار وفي تنظير مستمر لا ملل منه، في شخصيات غريبة شرها شر مطلق حتى لا يبدو لك كشر، لا تتعاطفع معهم ولكن تدريجيا يكاد يقنعك ب"طبيعتهم"، تنتظر الأمل كباقي الأعمال السينمائية ولكن ببساطة ينهي أملك بكل برود دم لم أشهده قط، كان ثوريًا وما زال ثوريًا على "البشرية" التي يرى أنها تلبس "قناع الفضيلة" بينما يقترح هو "قناع الطبيعة" وقانون الغاب.
عبقرية الماركيز في رواية جوستين تتمثل في قدر المآسي التس تضمنها الرواية، لها عناصر عدة أود لو أستفيض في شرحها، وسأبدأ من آخر الحوارات في الرواية، التي يكتمل فيها نضج القارئ وفق تربية الماركيز، فالرواية تربوية بارجة الأولى، يضع فيها الماركيز لك منهجًا تعليميًا متدرجًا، يهدف إلى "طبعنة الشر" في نفسك، وإرساء قانون الغاب وثنائية "المفترس والفريسة" ولقد كان، ففلسفة الماركيز في أوجها تنظر لأحقية الأقوى في فرض سيطرته على الضعيف والفقير، في استغلاله كما يشاء، وفي إنكار كل الفضائل التي تحابي الضعيف، فالطبيعة لا ترحم الضعيف وكذلك يجب ألا نرحم الضعيف، ويضيف لها نوع الإستغلال الذي يفضله، الذي يراه السعادة الأعظم، وهو الألم والمأساة، فشخصيات الماركيز سادية لأبعد الحدود، طوال الرواية تفرض أفعالًا سادية على خروفنا الضعيف "جوستين" بطلة الرواية، وإن لم تكسب من البطولة سوى استمرار ذكرها حتى الصفحة الأخيرة، فهكذا تدريجيًا يعلمك الماركيز عن قساوة هذا العالم وساديته وينظر لك ليوضح لك السعادة التي يشعر بها في إحداث الألم، ورغم ذلك في الفصول النهائية يوضح لك سعادة أخرى حين ينقلب المفترس لفريسة، حين ينقلب السادي لمازوخي، وتبقى الضحية ضحية، فتقوم شخصية سادية من التي كانت تعذب جوستين بأمرها أن تعذبه بطريقة ما، وتتوقف عندما يأمرها، عندما يصل لقمة اللذة، وتتوقف جوستين، فحتى في تعذيبها له كانت الضحية المأمورة، وهكذا هو الإنسان صاحب الفضيلة في هذا العالم، وفي المقابل يصل بك الماركيز لذروة العملية التعليمية حين يقضي على القواعد التي فرضها هو حتى، فليس السيد هو السادي، وليست السادية الوسيلة الوحيدة للسعادة، فبعد هذه القصة تجد أن السعادة ليست في إحداث الألم وحده بل في تلك العلاقة بين المفترس والفريسة مهما كان ما يفعله المفترس، تلك الحالة النفسية التي تعيشها الفريسة وتجعل المفترس في ذروة نشوته، وكأني أتذكر أني قرأت يومًا أن بعض المفترسات تفضل فريستها خائفة ترتعد.
هذه إحدى جوانب عبقرية الماركيز، كيف كتب تلك العملية التعليمية بهذا التدرج، وكيف يصل بك لقمة المأساة، وجانب آخر هو قدرته على إظهار المأساة كأمر طبيعي، ففي تدرجه في وصف مأساة جوستين نجده يقضي على إيمانها المسيحي الطيب بالتدريج، لا هو قضاء كالذي حاوله دوستويفسكي في الجريمة والعقاب مع إحدى الفقيرات بالتنظير، ولكنه قضاء بالفعل، قضاء تدريجي يصل في الفصول الأخيرة للرهبان وهم أعظم الشخصيات الدينية وممثلوا الدين في نظر جوستين، ولكن ما يلبث أن يحطمها مجددًا، ومن خلال مناظراتهم العديدة التي ينتصر فيها المفترس دائما، ينجح الماركيز في جعلك ترى المأساة كامر طبيعي، أن ترى أنه محتم على جوستين المأساة، حتى في الفصل الأخير حين تجدها أختها وتنقذها، تموت جوستين مصعوقة بالبرق الذي اصطادها من خلال شباك، وحينها تتأمل أختها المشهد وتتخذ قرارً مصيريًا تجاه حياة الفضيلة الاي كانت تنويها، فالماركيز بيعبر عن القارئ بهذه الأخت، حتى لو حاولت حماية الفضيلة بنجاستك، ستنتهي الفضيلة بأصحابها للمأساة دائمًا، فلا تحاول حتى، في سياسة الكر والفر التي اتبعها طيلة الرواية، يعطيك أملًا ثم يحطمه ثم يمنحك آخرًا ثم يحطمه.
شخصية جوستين من الشخصيات التي تود قتلها، صممت لإيصال هدف الماركيز بشكل عبقري، فهي شخصية من المفترض أن تحبها، من المفترض أن تكون قدوة، فهي الفضيلة متجسدة، مهما حصل لها تظل تختار الطريق المستقيم، تظل تحاول، ولكن هذه النقاوة بنسبة ١٠٠٪ إن أعجبتك في البداية فستبدأ بكرهها تدريجيًا دون أن تلاحظ، حتى تصل في النهاية لاعتبارها ساذجة غبية، وهو ما يهدف له الماركيز، فهكذا هي الفضيلة في هذا العالم، غبية.
ثقافة الماركيز الكبيرة للأسف تظهر في هذه الرواية في مناظراته العديدة، حيث يذكر أخبار الشعوب ووسائلهم في التعذيب الكثيرة، وقد تظهر في معلوماته عن فرنسا وهو ينقلنا بين المدن ولا أملك من العلم ما يمكنني من معرفتها، وبجانب ذلك نجد الشخصيات المثلية ظاهرة في الرواية بكثافة عالية، ولكن لا تبدو كمجرد أداة كما هي النساء، وكأنه لا يؤمن بأحقية الحياة إلا للذكور، فالعلاقات تبدو متكافئة إن كانت بين الذكور ويظهر الخلل إن كانت بين الجنسين في مرات عدة، ولم أفهم صراحة ما يرمي إليه الماركيز، وإن فهمت أحقية الرجال في نظره في مثل مجتمعه، وإن ظهرت شخصيات نسائية على قدر كبير من السلطة وصلت إليها بالرذيلة، ولم أفهم صراحة كيف تنتمي لهذا البناء المعرفي، فهذه الشخصية النسائية تخدم الرجال وتصل لمبتغاها بخدمتهم وتعامل النساء كبضاعة كما يعاملهم الرجال، فربما هذا سبب نجاحها، وربما هو يوضح لنا سر النجاح، فشخصية نجحت باستغلال الغير، وشخصية نجحت باستغلال نفسها، ولكن في كلتا الحالتين يجب أن تُستغل النساء لتنجح النساء...
التابوه هو سر الماركيز، وكسر التابوه هو ما يميزه، لكن الماركيز يختلف عن الآخرين في أنه لا يكسر التابوه لمجرد كسره، بل لهدف في ذاته يعرفه جيدًا، على عكس آخرين يجعلون كسر التابوه رد فعل، فكسر التابوه لديه فعل، وهذا ما يميز أعماله، أنها ليست عبثية، وإن لم أفهم من ذلك الفيلم الممنوع هدفًا، ربما لاختلاف هدفه عن هدف جوستين، ربما الهدف مما لا يحتمله عقلي ولا يقدر على اكتشافه.
التعليقات