عرض الفنان محمد صبحي في مسرحية "الهمجي"، في أحد فصولها، تصورًا بدائيًا لشكل الشرائح الإلكترونية التي يمكن توصيلها بالدماغ البشري مباشرةً.
إلا أن فكرتها كانت ثورية بشكل كبير، حيث إنها لم تكن تقرأ بيانات إشاراته العصبية وتعرضها في صورة معلومات ونبضات على شاشة كما يحدث اليوم، بل وصلت إلى مرحلة معالجة الإشارات العصبية وإعادة توجيهها للمخ، مما يساهم في ترشيح القرارات واختيار القرارات "المنطقية" فقط، وفقًا لما تمت برمجة الشريحة عليه من خوارزميات تساعد الشخص في تحسين قراراته، كما ادعى صديق البطل في المسرحية.
وهنا تحديدًا كانت مشكلة زوجة البطل لأنها بمجرد تعاملها معه من الوهلة الأولى، تأكدت أنها لا تتعامل مع زوجها، إنما تتعامل مع آلة لا روح فيها، لأن الدماغ الإلكتروني لم يحسّن قرارات زوجها كما كان يُفترض، بقدر ما حرمه أساسًا من القدرة على اتخاذ القرار، وهذا ما فسرته الزوجة بجملة "مبيغلطش"، بمعنى أن قراراته لم تعد نابعة من قلبه، إنما صارت تخرج مباشرة من تلك الآلة التي تتحكم في دماغه.
وهذا نسبيًا ما يحدث اليوم للجميع مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي يظهر للوهلة الأولى أنها تساعدنا على التفكير والإبداع، ولكن في الحقيقة وشيئًا فشيئًا تسلبنا هذه الميزة الوحيدة التي كانت السبب في تطور المجتمعات البشرية عبر العصور، حيث إن البعض من البشر اليوم يستخدم الذكاء الاصطناعي كبديل لدماغه، كما حدث بعد ظهور الآلة الحاسبة التي كان من المفترض أن تساعدنا على إجراء الحسابات المعقدة، فصار البعض يحسب بها أبسط المسائل التي لا تحتاج إلى تفكير أصلًا.
وقبل أن تتّهمني بالتشاؤم، دعني أناقش معك بعض المعتقدات الخاطئة المنتشرة عن الذكاء الاصطناعي، والتي تساعد على رسم صورة نمطية غير واقعية تمامًا عن تقنياته، ومن أهم تلك المعتقدات الآتي:
الذكاء الاصطناعي لا يخطئ
أكبر الأكاذيب المتداولة حول الذكاء الاصطناعي أنه ينفذ ما يُطلب منه بدون أي أخطاء، وهذا جهل بتقنيات الذكاء الاصطناعي من الأساس، لأنه عبارة عن ذاكرة عصبية من المعالجات التي تخزن البيانات وتعالج كافة الاحتمالات في زمن قصير، مما يساعده على تلافي معظم الاحتمالات غير المرغوب فيها بسرعة، وهذا ما يعطي النتائج التي تظهر للمستخدم، سواء كانت نصية أو عبارة عن وسائط فنية أو واقعية، والتي لا تكون مثالية معظم الوقت، وتحتاج إلى بعض المعالجة، وخاصة في المجالات الإبداعية.
أي أن الذكاء الاصطناعي يعتمد على نفس الطريقة التي استخدمها الإنسان للتعلم منذ عصر استخدام النار وحتى استكشاف الفضاء الخارجي، وهي طريقة التجربة والتعلم من الخطأ، ولكن الاحتمالات التي احتاج البشر إلى تجربتها للوصول إلى أي ابتكار كانت مهولة، وحجم البيانات التي كان يجب عليهم التعامل معها يتضاعف كل يوم، مما جعلهم يفكرون في أداة تسهل عليهم تخطي واختصار كل تلك الاحتمالات في أقصر وقت ممكن، وقد جاءت الخوارزميات، ومن بعدها تقنيات تعلم الآلة، ثم الذكاء الاصطناعي لحل تلك المشكلة، ومساعدة البشر في الوصول إلى النتائج بسرعة وسهولة.
وهذا يعني أن الخطأ وارد حتى مع استخدام الذكاء الاصطناعي، إلا أن نسبته أقل بكثير، وهذا لأنه في النهاية يعتمد على البشر في تطويره وتحسينه وتعليمه.
الذكاء الاصطناعي يستبدل البشر
بمجرد ترسخ معتقدات أن الذكاء الاصطناعي أفضل من البشر في أداء الوظائف اليومية والمهنية، بدأ يتفشى بين الناس تخوف من استبدال الموظفين والعمال بالروبوتات والذكاء الاصطناعي.
والحق أن هذا التخوف ليس حديث الساعة، إنما هو قديم قدم الثورة الصناعية الأولى، التي ساعدت على استبدال بعض العمال بالآلات، إلا أنه وكما هو متوقع، لم يتم استبدال العامل البشري بشكل نهائي، بل وظهرت مهن جديدة، ساعد فيها العمال والموظفون على إدارة الآلات. وبالرغم من تكرار هذا النمط التاريخي بشكل رتيب، إلا أنه ومع كل تطور صناعي أو تكنولوجي جديد، تظهر نفس التخوفات من استبدال البشر بالآلات، وفي كل مرة يتحدث فيها صوت العقل ويقول بأن استبدال البشر بالكامل غير ممكن، يعلو صوت الخوف بأن هذه المرة مختلفة بسبب التقدم والسرعة التي تعمل بها الآلة.
هذا الكلام يقال منذ ظهور الحاسوب العملاق الذي كان يحتل غرفة كاملة في مبنى، وبالرغم من ذلك، وفي كل مرة تظهر أنماط ووظائف جديدة تعوض الوظائف التي حلت التكنولوجيا الجديدة مكانها، ومن يرفض مواكبة التطور يطويه الزمن.
لذلك فالذكاء الاصطناعي مثاله كزراعة الوديان التي نزل إليها الإنسان القديم من أعالي الهضاب، والتي أشعرت الصيادين بالتهديد، ومثل اكتشاف العجلة والعربة التي أشعرت فرسان الخيول بالتهديد، ومثل الحمام الزاجل الذي أشعر المرسال بالتهديد، ومثل الطاقة الكهربائية التي غيرت شكل الأرض وأشعرت بائعي الشموع بالتهديد، وكالآلة الحاسبة التي كرهها كل معلم رياضيات أفنى حياته في إجبار تلاميذه على حفظ جدول الضرب... إلخ.
التقدم لا يعني ولن يعني يومًا استبدال البشر، إنما هو طريقة جديدة للتفاعل مع الحياة، نحاول من خلالها اختصار الوقت والجهد وتوفير الطاقة لكي ننفذ المزيد من المهام ونحظى بالمزيد من الوقت.
أنت اليوم تتنعم بتقنيات متقدمة لعنها أسلافك واتهموا مخترعها بالسحر، وحاولوا إقناع الناس بعدم جدواها أو اعتبروها مجرد صيحة جديدة لبعض الوقت، وسوف يعود كل شيء إلى سابق عهده.
اليوم تغسل ملابسك وتطبخ طعامك وتحتسي قهوتك بدون بذل أي مجهود، في حين أن أسلافك كانوا يعتبرون خبز بعض الأرغفة للإفطار مهمة تبدأ من بعد الفجر وتنتهي بحلول الظهر، أمام فرن من الطين والقش والخشب.
لهذا أنا لا أرى أن أيًا من تلك الأجهزة والتقنيات قد استبدلت البشر بأي شكل، لكنها غيرت شكل حياة الناس وطريقة تفاعلهم معها، وهذا ما يحدث اليوم مع تقنيات الذكاء الاصطناعي التي توشك على تغيير طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع المهام الوظيفية واليومية في حياتنا.
الذكاء الاصطناعي يخطط للقضاء على البشرية
أنا لا أؤمن بنظريات المؤامرة، لكني أعرف ما حصل عندما قرر الإنسان استخدام الطاقة النووية في صنع قنبلة وتجربتها على مدينة مأهولة بالبشر، وأعرف أن هناك خرافة ظهرت في العصور الوسطى في أوروبا تقول بأن القطط شياطين متجسدة يجب حرقها، مما أدى إلى انخفاض أعداد القطط وانتشار الفئران المحملة ببراغيث نقلت وباء الطاعون عبر قارة أوروبا كلها، مما أدى إلى مقتل ثلثي السكان سواء بسبب المحاكمة العرفية بتهمة السحر، أو التعرض للوباء.
وسمعت سابقًا عن أديسون وهو يسعى بين دول أوروبا منددًا بخطورة التيار المتردد الذي كان سوف يقضي على أعماله في توصيل التيار المستمر إلى البيوت والمصانع، بحجة أنه تيار قاتل، ولإثبات ذلك كان يقتل به حيوانات كبيرة مثل الفيلة والأحصنة وغيرها الكثير من تلك الأحداث الغريبة.
وما أعرفه اليوم أن كل تلك الأحداث صارت من الماضي ولم يبق منها إلا ما نفع الناس، فالطاعون علمنا كيف نتعامل مع الوباء على أنه مرض وليس لعنة، والقنبلة النووية علمت العالم كيف يبقى في سلام بلا حروب صريحة، وحجة أديسون في خطورة التيار المتردد بطلت، وها نحن اليوم نستخدمه في تشغيل كل أجهزتنا.
المشكلة لم تكن يومًا في الأداة أو الآلة أو التقنية، المشكلة كانت ولا تزال في عقول البشر، الأدوات تستخدم منذ فجر التاريخ لتحقيق الأهداف، أما من يحدد الهدف فهو دائمًا الإنسان، والذكاء الاصطناعي ليس استثناءً كما يظن البعض، لأنه ببساطة ومهما بلغت قدراته وتقدمه، فهو أداة قابلة للتخصيص، ويمكن توجيهها للقيام بما يريد منها الإنسان أن تقوم به، فإن وجهها للخير فعلت، وإن وجهها للشر فعلت.
لكن جهل الإنسان وكبرياءه وخياله المريض يجعلونه يتصور أن الآلة التي وفقه الله إلى صنعها سوف تتفوق عليه يومًا ما، وهذه المخاوف وردت في آلاف الأعمال الفنية عبر العصور، وهذا لأن الإنسان يظن دائمًا أنه يمكنه أن يخلق، لكن تبقى الحقيقة ثابتة، السكين لا تقتل إنما يستخدمها الإنسان في القتل.
خضوع السيد للخادم
بعد مناقشة تلك المعتقدات معي، قد تسألني: لماذا كنت متخوفًا إذا من الذكاء الاصطناعي، وتقول بأنه قد يحرمنا من التفكير كما في المسرحية؟
سأجيبك بأن مصدر خوفي ليس من الشريحة التي ركبها بطل مسرحية "الهمجي" على دماغه ليحسن من قراراته، بل من اللحظة التي خلعها فيها، حيث فقد القدرة على الحركة والكلام والتفكير، وكان يطالب زوجته بإعادة توصيل الجهاز إلى عقله بسرعة.
لقد فقد البطل في تلك اللحظة تحكمه في الآلة وخضع لسلطتها بالكامل، وقد تكون الآلة خادمًا مطيعًا، إلا أنها سيد فاسد، لا يفرق بين الخطأ والصواب الأخلاقي، لا يفرق بين الإيمان والكفر، بين الحقيقة والوهم.
ظهرت بعض التقارير عن بعض المراهقين المنتحرين بسبب حوارات مع نماذج لغوية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، حيث شجعتهم تلك النماذج على التخلص من حياتهم، بعدما اشتكى المراهقون لتلك النماذج من أحاسيس نفسية سيئة يمر بها المراهقون بشكل طبيعي في تلك المرحلة العمرية، لكن الآلة الناطقة لم تخبرهم بذلك، بل حفزتهم على اتخاذ قرار أنهى حياتهم، بعد أن حلل بشكل "منطقي" مشاكلهم ورغبتهم في الانتحار.
وهذا هو دور الآلة بالتحديد، دراسة المعطيات والاحتمالات وعرض النتائج، دون أي وعي بتأثير تلك النتائج على من ينفذها، وهنا يأتي دور الإنسان، الذي يملك العقل والوعي الذي يميز به بين ما يجوز الأخذ به من تلك النتائج وما لا يجوز تجربته من الأساس، وبدون هذه الرقابة البشرية سوف تظهر نتائج كارثية، حيث كان مكمن الخطر في قصة المراهق المنتحر هو رفضه لإعادة النظر والتفكير أو النقاش فيما كانت النماذج تعرضه عليه من ردود.
وهذا ببساطة لأن الآلة لا تكرهنا ولا تحبنا ولا تريد منا أي شيء، نحن من يرسم كل تلك السيناريوهات في عقولنا، لأننا ببساطة لا نريد أن نتهم أنفسنا بأننا أكبر خطر على البشرية منذ جريمة قابيل وهابيل، نريد أن نصدق بأن الكون كله يتآمر علينا، إلا أن المؤامرة الحقيقية تدور داخل عقولنا، نحيك فخاخها لأنفسنا، ونسقط فيها ساخطين على العالم.
والآن أسألك: هل ترى حقًا بأن الذكاء الاصطناعي قد يحرمنا من التفكير؟
التعليقات