هذا خاطرة خطرت لي قبل ايام، حيث شاهدت مقطعاً قديما من برنامج الاتجاه المعاكس، و تذكرت كيف انه كان دائماً يحضر اناسا يحملون افكاراً متناقضة تماماً ثم يدعهم يتصارعون صراع الديكة فوق شاشة التلفزيون.
الشارع العربي الذي كان يشاهد هذا البرنامج اسبوعيا و يستمتع به، لم يكن يبحث عن الاراء اللتي تثبت نفسها بالدليل و البرهان، بل كان يبحث عن الاراء اللتي تعبر عن «أمتنا» و الاراء اللتي يتبناها «أعدائنا» بغرض تبني اراء امتنا و معرفة اراء اعدائنا، من باب: إعرف عدوك.
نفس الشيء تقريبا يفعله السنة و الشيعة: واحد تربى سني، قد يبدأ بقرائة بعض كتب و اراء الشيعة و ردود السنة عليهم - ليس بغرض البحث عن الحقيقة - بل بغرض ان يكون على علم بالاراء اللتي يتبناها «قومه» و الاراء اللتي يتبناها «عدوه». نفس الشي طبعا يفعله الشيعي مع افكار السنة، و يفعله المسلم مع الديانة المسيحية و المسيحي مع الديانة الاسلامية.
نفس الشيء يمكن ملاحظته مثلا في صعود الحركة القومية في الخمسينات، و من ثم صعود الحركة الاسلامية في الثمانينات.
كيف يمكن لحركتين فكريتين مختلفتين و متناقضتين تماماً ان تصعدا هذا الصعود الرهيب في نفس المجتمعات بفارق جيل واحد فقط؟!
ابحث عن الرابط المشترك بينهما: كلاهما يقوم باخبار الشارع انه الممثل الرئيسي لهويته الثقافية و الحضارية.
الحركة القومية العربية اخبرت الشارع في الدول العربية اننا عرب، و اننا اصحاب المجد و التاريخ، الخ. و بالفعل لاقت هذه الافكار صدى كبير في الشارع. كان القوميون في زمنها هم المسيطرين على الاعلام تماما، خصوصا مصر تحت حكم عبد الناصر، و البعثيون في سوريا و العراق.
في الثمانينات كان للتيار الاسلامي حضور أكبر في الاعلام و الاخبار، و بالتالي كان له تأثير مشابه، حيث نشر بين قطاعات واسعة من المجتمع فكرة أننا مسلمون، و أن مجدنا و حضارتنا و عزنا كله بسبب الاسلام. و رغم ان الشارع وقتها لم يكن متديناً قط، (الجيل ما قبل السابق كان عندهم عادي جدا ان تشرب الخمر او العرق او سمه ما شئت، و لم يكن احد يرتدي الحجاب مطلقا). رغم ان الشارع لم يكن متدين لكنه كان يعتبر نفسه مسلم، و بالتالي انت فقط تثير في نفسه فكرة الهوية الاسلامية و سيقوم بتتبع هذه الهوية و ما تمليه عليه من افكار و اراء.
في المقابل دعونا ننظر الى الفاشلين: التيار اليساري و من يعتبرون انفسهم «المثقفون»: عبارة عن مجموعة من الدارسين في الخارج، اللذين يلبسون لباس الاخرين و يتحدثون بلغة الاخرين و يستوردون افكار الاخرين و يريدون ان يروجونها بين المجتمع بحجة انها افكار ناجحة! مثل هؤلاء الناس لا تأثير في المجتمع ابداً. لأنهم يقومون بعملية مناقضة لطبيعة الانسان. فالانسان يريد تتبني افكار مجتمعه، و هؤلاء يريدون ان يقولون له: مجتمعك افكاره خاطئة، اليك بافكار عدوك، تبناها فهي افضل لك!! لا عجب انهم منذ اكثر من تسعين سنة يحاولون دون جدوى.