يحتاج بعضنا أحيانًا أن يُحدِثَ تغييرًا فيمن حوله، ويرى في نفسه إمكانية الإصلاح، ولكنه عندما يُقدِم على ذلك يقابل عقولًا مُغلّقة وقلوبًا مُغلّفة، لا يكفي عمره كله في فتح حصون تلك العقول والقلوب فضلًا عن إحداث الإصلاح، فيمَلّ ويتخلّى عن رؤيته ويتملّكه اليأس!!

ولكنه أخطأ _ غالبًا _ في اختيار من يُطبّق عليهم رؤيته الإصلاحية، وذلك لأنه وقبل التطبيق لا بدّ من اختيار من هم جاهزون للتطبيق وقابلون له، فإن كنت _ مثلًا _ ممن ينادي بالتجديد فلا تذهب أول ما تذهب لمتشرّبي القديم ومتعصّبيه بل تذهب لمن لا مشكلة عنده في النظر والترجيح إما لحداثة سنّه فلم يتملك منه مذهب معين أو لأنه غير متمذهب أصلًا..

فمثلًا في بداية الإسلام، وَجَدَ النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه وحيدًا بدعوته وسط مجتمع رافض ومخالف تمامًا لما يدعو له، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصدع في أول الأمر بل انتقى من يدعوهم للإسلام كمن ينتقي اللحم من القدر، فردًا فردًا، فيكون بذلك ليس مجرد شخص زيادة يحمل الإسلام بل كان كل فرد من أولائك الأوائل أمّة وحده، لأن كلّ واحد منهم أرضًا خصبة، نزلت بقلوبهم بِذْرَةُ الإسلامِ فتمكّنت وتجذّرت، فخرجت من قلوبهم شجرة عظيمة أصلها ثابت وفرعها في السماء..

فإذا نظرنا للسابقين الأولين للإسلام نجد أول ما نجد خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي ماتخلّت عنه ولا عارضته لا بقول ولا فعل بل ساندته بنفسها ومالها وسلطانها..

وهذا عليّ _ كرم الله وجهه _ لمّا عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام تردد وقال " لستُ بقاضٍ أمرًا حتى أُحدّث أبا طالب" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لم تُسلم فاكتم " فهنا تتجلى أهمية اختيار من نرى عنده قابلية التحمل للأمر الجديد عنه، فعليّ رضي الله عنه رغم صغر سنه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه هو ولم يعرض الأمر على أبيه، وذلك لأن عليّ رضي الله عنه كان لازال صغيرًا ولم يتشرّب الوثنية فيكون أكثر إقبالًا على الحق من أبيه الذي تشرّب دين آباءه وتعصّب له فعميَ عمّا سواه!

وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يشرب خمرًا في الجاهلية ولم يسجد لصنم وكان عفيفًا خلوقًا فلم يقبل بالباطل أصلًا قبل الإسلام فلم يتمكن منه، فكأنه حفظ قلبه وصانه حتى جاء النور فقبل به بيُسرٍ حتى قيل أنه لما عُرض عليه الإسلام لم يتبطّأ ولم يفكر وأجاب فورًا..

وغيرهم ممن سبقوا للإسلام كانوا إما غلمانًا سنهم صغير فما لَحِقَ الباطلُ أن يُؤصِّل جذورَه، أو شبابًا ولكنهم ما تركوا نفسَهم لظلام الجاهلية فلم يتمكّن الباطل منهم، فكانت النتيجة أن عَرَفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور النبوة واختارَهم فقبِلوا..

فلما جاء الأمر بالصَدْع والجهر بالدعوة تفاجأ المشركون بدعوةٍ جاءت ولها أنصار، وأولائك الأنصار فيهم من هم من أشراف العرب وتجّارًا ذووي شأن، وفيهم غلمان ولكنهم من قبائل ذات قوة ومَنَعَة، وهذا بلا شك صعّب الأمر على المشركين..

وأما مانجده في حاضرنا من صعوبة في تغيير الأباطيل الموروثة كعادات ما أنزل الله بها من سلطان أوتقليد بلا عقل كما هو حال الملاحدة فهو والله راجعٌ لذاك السبب، فتلك عقول أخذت من أسلافها تلك الأمور وغُلّقَت عمّا دونها، أو قَبَعوا لسُلطان أهوائهم فرفضوا التغيير، فأصبح من الصعب جدًا إحداث التغيير فيهم..

ولهذا لا تُرهِق نفسك معهم فستصلهم رؤيتك لا محالة، ولكن عليك بمن تراه متقبلًا لأن يُبصِر الحق وعليك بصغار السن، خاصة ممن هم في أهلك، خاصة أبناءك..

ولا تدّخر جُهدًا في إصلاح أولادك، فلئن تُخرج من صلبك ولدًا سليم القلب والعقل يكون قدوة بين أقرانه وينفع دينه ومجتمعه خير لك وأولى من أن تُضيّع عمرك مع من يُرهقك ولا يريد إبصار الحق.