أعمال الجوارح وضرورة الإخلاص فيها (النية أبلغ من العمل)

مقدمة

الإيمان ليس مجرد اعتقاد في القلب، بل هو قول وعمل، وأعمال الجوارح هي ترجمان لما في القلب، فالصلاة، والصيام، والصدقة، وبر الوالدين، وغيرها من العبادات، لا قيمة لها إن لم تكن خالصة لله تعالى؛ فالدين الإسلامي يقوم على إخلاص النية لله تعالى، فالعمل مهما كان عظيمًا لا يُقبل عند الله إلا إذا كان بنية صالحة. لكن هناك خطرًا عظيمًا يهدد العمل الصالح، وهو الذنوب التي تُرتكب في الخفاء، وافتقاد الإخلاص في العبادة. فكيف تؤثر ذنوب الخلوات على قبول الأعمال؟ وما علاقتها بالإثم الذي يستحي الإنسان أن يراه الناس عليه؟

أولًا: أعمال الجوارح لا تُقبل إلا بالإخلاص

أعمال الجوارح تشمل كل تصرف يقوم به الإنسان، سواء من العبادات أو المعاملات، لكن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له.

قال الله تعالى:

﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ (الفرقان: 23).

  • أي أن هناك أعمالًا ظاهرة قد تبدو عظيمة، لكنها إذا لم تكن لله، فهي لا تزن شيئًا عنده يوم القيامة.
  • وقال النبي ﷺ:

"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (متفق عليه).

  • العمل الصالح لا يُقبل إلا إذا كان خالصًا لوجه الله وليس رياءً أو طلبًا لثناء الناس.
  • الخلاصة: أعمال الجوارح وحدها لا تكفي، بل لا بد من الإخلاص فيها حتى تكون مقبولة عند الله.

ثانيًا: العلاقة بين ذنوب الخلوات وحبوط العمل الصالح

  • قال النبي ﷺ:

"لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثورًا"، فقيل: يا رسول الله، صفهم لنا، قال:

"أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

  • هذا الحديث تحذير شديد لمن يظهر الطاعة أمام الناس، لكنه إذا اختلى بنفسه وقع في المعاصي دون خوف من الله.
  • كيف تُحبط ذنوب الخلوات العمل الصالح؟
  1. تدل على ضعف الإيمان: لأن المؤمن الصادق يخاف الله في السر كما في العلن.
  2. تنزع البركة من الأعمال: فقد يصلي ويصوم، لكن يجد قلبه قاسيًا، ولا يشعر بحلاوة الطاعة.
  3. تحرم العبد من نور الطاعة: لأن الذنوب، وخاصة في الخفاء، تميت القلب وتطفئ نور الإيمان.
  • الخلاصة: من أراد أن يُقبل عمله، فليجعل خوفه من الله أعظم من خوفه من الناس، فلا يعصي ربه إذا اختلى بنفسه.

ثالثًا: الإثم ما حاك في النفس وخشيت أن يطلع عليه الناس

  • قال النبي ﷺ:

"الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" (رواه مسلم).

  • هذه قاعدة عظيمة في معرفة ما هو الحرام:
  1. الإثم هو ما يسبب القلق في القلب: فإذا شعرت بعدم ارتياح تجاه فعل معين، فهو غالبًا غير مرضٍ لله.
  2. الخوف من افتضاح المعصية دليل على عدم الإخلاص: لأن المؤمن الصادق يخاف من اطلاع الله عليه، وليس فقط من نظرات الناس.
  3. الفرق بين من يعصي في العلن ومن يعصي في السر: كلاهما مذنب، لكن من يعصي في السر ويستحي أن يُعرف عنه ذلك، قد يكون في قلبه شيء من الإيمان، بينما المجاهر بالمعصية لا يبالي وهذا أخطر.
  • الخلاصة: من كان يخشى أن يعرف الناس بمعصيته، فليعلم أن الله أولى أن يُستحيا منه، ومن أراد أن يسلم من الذنوب، فليجعل خوفه من الله أقوى من خوفه من البشر.

رابعًا: كيف تكون النية أعظم من العمل؟

1- تحويل العادة إلى عبادة

  • النية الصالحة تجعل من الأمور العادية عبادات يؤجر عليها العبد، مثل:
  • الأكل بنية التقوي على الطاعة.
  • النوم بنية الاستعداد للقيام والعبادة.
  • العمل بنية الكسب الحلال لإعالة الأهل.

2- إدراك الأجر حتى مع عدم القدرة على العمل

  • إذا نوى الإنسان الخير بصدق لكنه مُنع منه لعذر، كُتب له الأجر كاملًا، كما قال النبي ﷺ:
  • "إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" (رواه البخاري).
  • من نوى الصيام لكنه لم يستطع لمرض، أو نوى قيام الليل ثم غلبه النوم، كُتب له الأجر.

3- النية الصادقة ترفع القليل إلى مراتب عالية

  • قد يكون العمل صغيرًا، لكن النية ترفعه ليكون أعظم من الأعمال الكبيرة.
  • المتصدق بدينار وهو في ضيق بإخلاص قد يكون أعظم أجرًا من منفق الملايين رياءً.

خامسًا: النية السيئة قد تحبط العمل الصالح

  • كما أن النية الصالحة تُعظّم الأجر، فإن النية الفاسدة قد تفسد العمل الصالح.
  • قال الله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا۟ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورٗا﴾ (الفرقان: 23).
  • العمل إذا كان لأجل الرياء والسمعة، فهو مردود على صاحبه، حتى لو كان ظاهرًا عظيمًا.

سادسًا: كيف نُحسّن نياتنا؟

  1. الإخلاص لله في كل عمل، فلا ننتظر مدح الناس.
  2. التفكر في الأجر المترتب على العمل، فذلك يزيد النية قوة.
  3. الاستمرار في تجديد النية، لأن القلب يتقلب.

خاتمة

النية أساس كل عمل، وهي التي تُحدد قيمته عند الله. فكم من أناس سبقوا غيرهم في الأجر بنياتهم فقط! فلنحرص على إخلاص النية في كل أعمالنا، حتى ننال أعظم الأجور بفضل الله. ولنتذكر دائمًا أن أعمال الجوارح لا تُقبل إلا إذا اقترنت بالإخلاص، وذنوب الخلوات خطر عظيم قد يحبط العمل الصالح، ومن أراد النجاة فليحاسب نفسه، وليكن خوفه من الله أعظم من خوفه من الناس. قال أحد السلف: "لا تجعل الله أهون الناظرين إليك".

فهل جعلنا الله أهون الناظرين إلينا؟ أم أننا نخافه في السر كما نخافه في العلن؟