مررت بفترة حذفت فيها حساب فيسبوك الخاص فسأني أصدقائي عن السبب فقلت: إن الموقع يطرح على زواره مواضيع لا تعنيهم، دون رغبة منهم في ذلك، أقصد هنا القضايا الشائعة (الترندات)، فاتبعوا سؤالام بآخر : وما يعنيك، لماذا تكره التريند؟   

وها أنا أجيب:   

في بداية تصفحي لموقع فيسبوك، كانت بعض المنشورات التابعة لأشخاص لا أهتم بهم، تعرض ضمن آخر الاخبار، ورغم عدم اهتمامي بتلك المواضيع، إلا أن الكلام المكتوب فيها، كان في غاية الاستفزاز، مما كان يحفزني للرد عليه؛  فكنت أعلق وأرد في سجال فكري متواصل، طوال نهاري، مع صاحب التعليق لإقناعه بوجهة نظري، لأجد في النهاية أني لم أكن وحدي، وأن جيشاً من الردود الأخرى، كانت تساندني في وجهة نظري، لكن بلا فائدة ترجى، إلا شهرة وانتشار المنشور بين الناس؛ وبعد ظهور علامة الهشتاج، وجدت أن وراء هذا المنشور، الذي كلفت نفسي ساعات من الكتابة وحرق الأعصاب، للرد عليه وإفحامه، سيلاً من المنشورات الأخرى، التي تحمل نفس الفكر، وأحيانا تدافع عنه بشكل أقوى من الأول؛ فأخذت على عاتقي دخول غمار تلك الحرب، وخوض نزالات جديلة لا حصر لها، لصد هذا العدوان الفكري، المغاير لطريقتي في التفكير، وآرائي الفذة العبقرية، أو كما كنت أظن وقتها ؛  وتوالات الهشتاجات والمواضيع بشتى أشكالها سياسية، اقتصادية فنية رياضية، وحتى طبية، وهندسية، محلية، وعالمية، ومع كل قضية جديدة، أكون أكثر تعصباً وتحجراً لآرائي، غير عابئ بحرية الآخرين في إبداء آرائهم، ولا حتى بمشاعرهم.   

حتى بدأ سؤال ملح ومزعج يدق على رأسي كنقار الخشب:   

ما الفائدة؟   

ما جدوى إبداء الرأي والمجادلة، فيما لا يعنيني؟   

أو بطريقة أخري : ماذا جنيت جراء حرق أعصابي، في مناوشات جدلية، مع من لا تربطني بهم أي صلة، من أجل إقناعهم بقناعة شخصية لي، في موضوع لا علاقة لي به ولا تأثير له عليَ لا من قريب ولا من بعيد؟

ولانزال هذا النقار المزعج من فوق رأسي، ومحاولة لإجابة هذا السؤال، وجدت نفسي أمام ثلاثة أسالة أخرى، أكثر عمقا ولكنها أبسط :   

هل غير رأيي شيء بخصوص تلك القضايا يوماً؟   

هل تم العمل به، أو اعتباره كمشورة ذات فائدة ومعنى؟   

وكانت الإجابة: لا .   

هل كان لرأي الأغلبية، في تلك المواضيع، أي تغيير في مسار الأحداث؟   

والإجابة: أبداً.   

هل استفدت أنا أي شيء من المجادلة في هذة المواضيع، على المستوى الثقافي أو العلمي أو حتى العملي؟   

والإجابة: إطلاقاً.   

فسألت نفسي حينها : إذا لما كل هذا الحماس، عندما أبدي رأيي، في أي من تلك المواضيع؟   

وأثناء بحثي عن الإجابة، توقفت عند إجابة أحد أصدقائي، لنفس السؤال:   

أنا أتفاعل كي لا أكون سلبياً، وأشارك مجتمعي القضايا المهمة، بصورة فعالة، كي أكون عضواً مهماً في المجتمع.   

أثارت هذه الإجابة في ذهني، سؤال أعمق وأكثر صعوبة :   

كيف يكون إبداء الرأي في أشياء لا تعنيني، أمرا إيجابيا ومشاركة فعالة في المجتمع؟   

أوليس من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.   

وبعد الكثير من البحث، وجدت ضالتي في مقالة ثقافية، تشرح مفهوما إقتصاديا، يسمى اقتصاد: البالون أو الفقاعة الاقتصادية :   

وهي حالة إقتصادية يتزايد الطلب فيها على منتج معين، فيرتفع سعره إلى مرحلة جنونية، لا تتناسب مع قيمته الحقيقة، كما يتنفخ البالون، ومع تزايد الطلب عليه، مع عدم القدرة على رفع سعره أكثر، ينهار سعره ويهبط هبوطاً حاداً، وبشكل مفاجئ، مما يتسبب في إنفاق الكثير من الأموال، على سلع لا تستحق كل هذه القيمة، وقد لا يكون المشتري في حاجة لها أصلاً.

وعند ربط هذا المفهوم (بالتريند ) : تجد أنهما متحدان في أصل الفكرة، فالتريند : هو خبر مثير يتزايد الاهتمام به لدرجة جنونية، كما تنفخ الفقاعة، وما يلبث أن تتزايد الأراء فيه وتظهر حقيقته، فيغدوا مملاً ولا يهتم به أحد، وتتراجع معدلات متابعته إلى الصفر.

إلا أن الفارق الوحيد بين بالون الاقتصاد، وفقاعة التريند : أن الأول يأكل أموال الناس، أما الأخير فيأكل أعمارهم.

أجل فالكثيرون يقضون أياماً ينشرون، ويردون، ويتناقشون في مواضيع لا علاقة لهم بها، متناسين همومهم، ومشاكلهم الشخصية، ويعطون هذه الترندات، أولويات في حياتهم، غير مدركين لخطورة الغفلة، التي هم فيها عن حياتهم الحقيقية.   

لكن رغم قوة هذه النظرية، إلا أنها لم تجب عن سؤالي بشكل كامل، وعاد إلي النقار من جديد :   

إذا كانت مضيعة للوقت، لماذا يتهافت الناس على التريند، تهافت ذكور الفراش على النار ؟   

وأثناء تفكيري في السؤال، وجدت الإجابة في آخر جملة فيه:   

يتهافت ذكور الفراش على النار، لأنهم يستشعرون الأشعة فوق البنفسجية، التي تصدر عن اللهب، والتي تصدر عن إناث الفراش أيضا في مواسم التزاوج، فيظن الفراشة الذكر أنه ثمة أنثى تدعوه للتزاوج عند مصدر الضوء فيهرع إليه، وما إن يصل حتى يحترق ويشوى تماماً ويموت.   

هذا ما يحدث في عالم الأخبار الشائعة (الترندات)

يهب الناس للنقاش، والجدال، والدفاع، والهجوم على بعضهم البعض لإثبات او نفي وجهات نظرهم، في مواضيع لا تخصهم، وقضايا لا تعنيهم، متناسين حياتهم ومشاكلهم ومسؤلياتهم، ظانين أنهم أصحاب قضية، وأصحاب رسالة، وأنهم يدافعون عن الحق، وأن لهم دوراً في المجتمع، غير مدركين أنهم يقتربون من الموت، وهم في غفلة عن أعمالهم، لا يرون الساعات التي يأكلها الجدال من أعمارهم، واعصابهم، ومع كل تريند يمر، يخلف من روائه خلافات وضحايا وأزمات، في كثير من العلاقات بين البشر.   

ما جعلني أكمل بحثى لأفهم أكثر، عن طبيعة التريند ، وصعقت عندما تعرفت على مفهوم الادمان العام:

الإدمان: عبارة عن إضطراب سلوكي يفرض على الفرد تكرار عمل معين باستمرار، لكي ينهمك بهذا النشاط بغض النظر عن العواقب الضارة بصحة الفرد أو حالته العقلية أو حياته الاجتماعية.

ألا ترى عزيزي القارئ معي مدى تقارب الإدمان مع حقيقة التريند؛ نعم أنه إدمان بلا أي شك، أدمان علني يهرب به الناس من مشاكلهم الحقيقية إلى مشاكل مزيفة، وقضايا وهمية غير موجودة إلا في عقولهم؛ إدمان يأكل من أعمار الناس، ويبعدهم عن حياتهم، ويكبلهم في قيود ذهبيه تلمع أمام أعينهم، فيظنون أنهم الأقوى والافضل، وأن أرائهم في الأصح والاقوى، وأن من خالفهم فهو مجرم عديم الأخلاق، ومن وافقهم فهو حليف وصديق حميم.   

وفي النهاية أسمح لي أيها القارئ أن أضع النقار على رأسك أنت وأسالك سؤالاً، إذا كنا نعرف من يتاجر في المخدرات، ومن يروج الإباحية، ومن يصنع الطعام السريع، وكلها مسببة للإدمان؛ إذا فمن يبيع لنا التريند يا عزيزي القارئ ؟!