اذا سمعت ان شخصا غريب لا تعرفه فاز بمليون دولار باليانصيب او سمعت ان شخص مشهور يجني 100 مليون دولار سنوياً، او أن احد الأغنياء اشترا سيارة بوجاتي الفاخرة سيبدو لك هذا طبيعيا ولن تشعر حياله بشيء. لكن بالمقابل، إذا كان صديقك المقرب هو من فاز بالمبلغ ذاته، او ان زميلك في العمل حصل على ترقية فلا شك ان هذا سيثير فيك نوع من مشاعر الحسد حتى وان كنت صاحب مشاعر نبيله ونيه بيضاء.
يبقى السؤال : لماذا نشعر بالحسد والغيرة من إنجازات أصدقاءنا المقربين ومن زملائنا حتى وان كانت ضئيلة ولا نشعر بنفس المشاعر عند تحقيق الغرباء لمثل هذه الإنجازات!؟
- التقارب والتشابه
يشرح الدكتور آلان دو بوتون في كتابه الشهير "قلق السعي إلى المكانة" إن سبب هذا الشعور (الحسد) هو ما سماه ب "التقارب والتشابه". أي مقدار قربنا وتشابه هواياتنا وارائنا معا الأشخاص الذي نعرفهم ونحبهم ونكون معظم الوقت بجانبهم. حيث ان الإنسان بطبيعته يميل إلى مقارنة نفسه بالمجموعة المحيطة حوله، او كما يسميها هو "المجموعة المرجعية"، والمجموعة المرجعية كما عرفها آلان دو بوتون : "إنها جماعة الناس الذين نعتقد أنهم يشبهوننا".
فنحن لن نشعر بالحسد من الغرباء او ممن لا نتشارك معهم الميولات والآراء والحالة الاجتماعية والمكانة.
ويعطي مثالا رائعاً على ذلك حيث يقول :
لا نعتبر أنفسنا محظوظين إلّا حينما نملك مثل ما يملك، أو أكثر مما يملك، الأشخاص الذين نشأنا معهم، أو نعمل إلى جانبهم، أو نتخذهم أصدقاء، أو نتشابه معهم في المجال العام. إذا كنا مُضطرين للعيش في كوخٍ غير صحي تتلاعب فيه الرياح الباردة، راكعين أمام الحُكم الغاشم لأرستقراطي يشغلُ قلعة كبيرة جيدة التدفئة، ونرى رغم ذلك أنّ أشباهنا وأندادنا يعيشون جميعًا كما نعيش تمامًا، فإن حالنا عندئذٍ سيبدو عاديًا - سيكون مؤسفًا بكل تأكيد، ولكنه ليس تربة خصبة لنمو الحسد.
"وفي المقابل، حتّى لو كنا نملك بيتًا جميلًا وعملًا مريحًا، فإذا اتخذنا ذات مرة قرارًا غير سديد بحضور حفل لم شمل لزملاء المدرسة، وعرفنا هنالك أن أحد أصدقائنا القدامى (من مجموعة مرجعية أشد إغراءً منهم ) يسكن الآن في منزل أكبر من منزلنا، اشتراه من راتبه الذي يتلقّاه عن وظيفة أحسن من وظيفتنا، فأغلب الظن أننا سوف نعود إلى البيت حاملينَ على أعناقنا إحساسًا ثقيلًا بسوء الحظ."
"إنه الشعور بأننا، في ظل ظروفٍ مختلفة، كان من الممكن أن نكون شيئًا آخر غير ما نحنُ عليه، شعورٌ يزرعه فينا التعرّض لمنجزاتٍ أعلى حققها مَن نَعتبرهم مساوين لنا - ويتولّد عنه القلق والنقمة. إذا كُنا قصار القامة، مثلًا، ولكننا نعيش بين أشخاص لهم طول قامتنا نفسه، فلن تشغل بالنا مسائل الحجم أكثر مما يجب : ولكن إذا نَمَا آخرون في مجموعتنا بحيث صاروا أطول منا ولو قليلًا، فإننا عُرضة لأن نشعر بضيقٍ مفاجئ وأن نقع في قبضة الاستياء والحسد، حتّى على الرغم من أننا نحن لم يتقلّص حجمنا ولو بجزءٍ ضئيل."
- إيجابية الحسد
يشرح الدكتور آلان دو بوتون ان من مزايا الحسد أننا لا نحسد جميع الناس وجميع الفئات في المجتمع. وهنالك سبب وجيه لذلك، فنحن لا نشعر بالغيرة والحسد لمن يكون بيينا وبينهم فروق كبير رة او كما اشير اليه "بالتباين والتفاوت الهائل" حيث يكونون خارج اهتماماتنا تماما. وعلى النقيض فإن نجاحات اقراننا قد تكون سبب في تعكير صفو مزاجنا. ويذكر الدكتور آلان دو بوتون قائلًا : "مع التسليم بالتفاوتات الهائلة التي تواجهنا بصورة يومية، فقد تكون السمة الأشد تقديرًا في الحَسد هي أننا ننجح في ألّا نحسد جميع الناس".
هناك أشخاص غارقون في النَعم الباذخة بحيث يخرجون تمامًا من دائرة انشغالنا، في حين تتسبّب مزايا متواضعة لآخرين بأن تجعلنا نحترق بنار عذابٍ لا تهدأ. إننا نحسدُ فقط أولئك الذين نشعر بأننا أشباهٌ لهم - نحسد فقط أعضاء مجموعتنا المرجعية . قد نتسامح مع كل نجاحٍ يحققه الآخرون إلّا نجاحات أندادنا المزعومين، فهي لا تُطاق" . «لا يتولّد الحسد عن التباين الشديد بيننا وبين الآخرين، بل على العكس، الحَسد وليد التقارب».
"إن أي جندي عادي لن يحمل حسدًا نحو قائده الجنرال مقارنةً بما سوف يشعر به نحو رقيبه المباشر أو زميله العرّيف؛ كما أن الكاتب عالي المكانة لن يجد نفسه موضع غيرة الكتّاب التافهين المبتذلين، بقدر ما سيلقى الغيرة في صدور مؤلفين أقرب إلى مكانته. إن التباين العظيم يقطع الصلات، وهكذا فإمَّا أن يثنينا عن مقارنة أنفسنا بما هو بعيد عنا غاية البعد، أو أنه يقلل آثار المقارنة». يترتب على ما سبق أنه كلما ازداد عدد الأشخاص الذين نعتبرهم أندادًا لنا ونقارن أنفسنا بهم سيزداد عدد مَن نحسدهم."
- كلمة ختامية
ان الطبيعة البشرية عجيبة ومتقلبة، وفي الغالب نحن البشر انفسنا نعجز عن فهم مشاعرنا. الشعور بالغيرة والحسد قد تصيب حتى من يحمل انبل وافضل الصفات، لأن الأمر يكون خارج نطاق ارادتنا وتتحكم فيه عوامل كثيرة مثل البيئة المحيطة بنا، والمشاعر وحتى العوامل الجينية التي نحملها.
لكن من المهم أن نملك السيطرة على مشاعرنا وأن لا نفسح المجال لها اكثر من الازم. في نهاية الامر يجب ان نتمنى للأخرين كما نتمنى لأنفسنا، وان نعامل الاخرين كما نحب ان يتم معاملتنا، فاذا نظرا للأمر من هذه الزاوية ستصبح الأمور افضل بكل تأكيد.
التعليقات