يقول الكاتب الفرنسي جورج بوفون: الأسلوب هو الرجل. جملة خبرية صادقة لم أعي معناها الحقيقي إلا بعد أن تعرفت على كاتبي المفضل عباس العقاد. حينئذٍ عرفت كيف أن البيئة المادية والنشأة الاجتماعية للكاتب وكذلك نمط فكره ونوع المطالعات وشخصيته ذاتها هي التي تؤلًف أسلوب كتابته. لذا، فحينما تقع عيناك على سطور في صحيفة ما يمكنك على الفور أن تميز من هو كاتبها فقط إذا درست شخصية ذلك الكاتب.
فلو نظرت إلى نشأة العقاد لوجدتها في أسوان حيث جلال المعابد الفرعونية الضخمة وحيث شمس النهار الحارقة وحيث طبيعة أهل الصعيد من الوضوح والشدة. ثم لو نظرت إلى نوعية الكتب التي كان يقرأها من صغره لوجدتها كتب فلسفية إنجليزية كانت تترجم عن الألمانية وما أدراك ما الفلسفة الألمانية من بعد الفكرة ووعورة الألفاظ والتفاف المعاني. كانت شخصية العقاد شخصية صريحة قوية جبارة وكذلك جاء أسلوبه المنطقي الصريح الجاف يعتمد على المقدمات والنتائج. لم تكن حياته فوضى فكانت أفكاره تشبهها إذ كانت مرتبة ترتيباً يتميز فيه البدء والختام. كان أسلوبه علمي يميل إلى الإيقاع ونهاية الفواصل في غير حشو و كان يُؤثر المعنى على اللفظ. ولو درست شخصية العقاد لوجدت أسلوب كتابته يتطابق تماماً مع مشربه وسلوكه في الحياة. انظر في الفقرة الآتية كيف يختار الكَلِم ويرتبها ترتيبا يشبه شخصيته المنظمة وكيف هو حاد صريح في عبارته كما كان حاداً في طبعه شرساً في معاركه الأدبية.
يقول في مقدمة كتابه عن هتلر: في هذا الكتاب ما أنا بقاض، ولا يسرني أن أكونه. لأنني لا أحسن التسوية بين الخصمين في قضية الطغيان والحرية الإنسانية. وأحمد الله أنني خصم قديم فيها منذ نيف وثلاثين سنة؛ أي في السن التي يُراع فيها بعض الناس بمظاهر السطوة والاقتحام." فهل ترى في أسلوب العقاد كلمة في غير مكانها أو كلمة زائدة؟ لا، بل كل كلمة في موضعها المنطقي اللائق بها كأنًك تبنى هرماً جليلاً من حجارة صلدة. فهو لا يحشو ولا يزيد في غير حاجة أبداً وكذلك كان العقاد في حياته قليل الكلام فلا يتكلم إلا إذا رأي للكلام ضرورة؛ فليس عنده فضول حديث.
أما طه حسين فكان أسلوبه استطرادي يتبع طريقة التصوير المتتابع فكان يُسهب ويكرر المقاطع وعرض المعنى الواحد في صور مختلفة وذلك يرجع إلى آفة العمى وأنً معظم مطالعاته أدبية؛ فقد كان يُملي ما يجول بخاطره ولأنه فاقد لحاسة البصر فكان كأنه لم يثق بتوصيل المعنى فكان يؤكده بتكرار الفكرة في ألفاظ شتى. كذلك يتميز أسلوبه بتنغيًم الكلمات والمقاطع وذلك راجع إلى ذات الآفة؛ فهو لم يكن يستعمل سوى حاسة السمع الذي كان يتذوق بها الموسيقى العربية والفرنسية فجاء أسلوبه تبعاً لذلك. أنظر إليه يقول في مقدمة حديث الأربعاء:
وإِنَّما أُسمي هذه الأسطر مُقدِّمَة؛ لأنَّ النَّاس تَعَوَّدُوا تَسْمِية مِثلها مِثْلَ هذا الاسم؛ فليست هي في حقيقة الأمر مُقدمة، وما كان مثل هذا السفر ليحتاج إلى مُقَدِّمة، وقد قرأ الناسُ فصوله كلها في «السياسة» و«الجهاد» فهم يعرفونها بأنفسهم، ولا يَحْتَاجُون إلى أنْ يُقَدِّمَهَا إليهم أحدٌ، وَمَا كانَ هذا السفر ليحتاج إلى مُقدمة وأنت لا تكادُ تقرأ فصلًا من فصوله إلَّا وجدت فيه مقدمته الخاصة.
إذن فلكل منا أسلوب قاهر لن نفلت منه وهو أثر من آثار البيئة التي تصنع شخصيتنا ولكنّا نختار كذلك أسلوبنا من نوعية مطالعتنا ومواقفنا في الحياة. فهل وجدت أنت أسلوبك المميز أيها الصديق الكاتب أم ما زلت تسعى خلفه؟ وأيً الأسلوبين تفضل مما عرضت ولماذا؟
التعليقات