العالم كما نعرفه اليوم ليس سوى وهم، صورة مزيّفة صُنعت بإتقان، والتاريخ من بدايته إلى نهايته ليس سوى صفحات كُتبت بأيدي المنتصرين والمسيطرين، تاركين خلفهم روايات متناقضة تُلقّن للأجيال وكأنها حقيقة مطلقة. نحن نعيش على المعلومات التي نأخذها من كبار الشخصيات، رغم أن هؤلاء الكبار يستمدّونها بدورهم من شخصيات أقل شأنًا، ليس من العرش أو البرلمان، بل من أماكن أخرى أكثر قدسية وتأثيرًا... الكنيسة، المعابد، والسراديب المظلمة حيث تُكتب الحكايات وتُحدد الحقائق قبل أن تصل إلينا مشوهة.
كمثال بسيط، ليومنا هذا لا نعرف الحقيقة الكاملة عن النمرود، ولا عن هاروت وماروت، قصصهما تتغير بين الكتب السماوية والمصادر التاريخية، وما بين الأسطورة والحقيقة تضيع الملامح الأصلية. سليمان... الهيكل... بابل، كل هذه الأسماء محاطة بالغموض، تاريخها مكتوب بيد من أراد أن يتحكم في الحاضر والمستقبل. نحن نعيش في سنة متأخرة أربع سنوات عن التاريخ الحقيقي، ونُجبر على اعتبار يناير بداية العام، رغم أن هذه التقسيمات الزمنية لم تكن موجودة في الأزمنة القديمة كما نعرفها اليوم.
حتى المناهج الدراسية، التي يُفترض بها أن تكون المرجع الأول للمعرفة، تخفي نصف الحقيقة. لن تجد في كتاب تاريخ بلدك ما يتطابق مع كتاب التاريخ في بلد مجاور يتحدث عن نفس الحقبة. الحقائق تُعدل، تُخفى، أو يُضاف إليها ما يناسب السردية التي يريدون لنا أن نؤمن بها. نحن نمارس طقوسًا ليست لنا، ونتبع خطى الديانات الوثنية دون أن ننتبه، نردد شعارات، ونحتفل بأيام لم تكن جزءًا من ثقافتنا، وإن سألتَ أحدهم عن أصلها، لن يُبالي، لأنه ببساطة لم يتساءل يومًا.
قبل عام، قرأت أنتيخريستوس رغم أنني لا أميل إلى الروايات الحديثة، لكن العنوان جذبني. صفحة بعد صفحة، كنت أتعرف على أشياء لم أكن أعلمها، لكنني في نفس الوقت لم أستطع تصديقها، ليس لأن المعلومات كاذبة تمامًا، بل لأنها تصلني بشكل مختلف عبر مصادر أخرى. يومًا بعد يوم، أدركت أننا نعيش في عالم حيث الكذبة تُعاد صياغتها مرارًا حتى تصبح حقيقة، وحيث الرجال ذو اللحى الطويلة في الكنائس، يبيعون أرواحهم للشيطان ليمنحونا الحقيقة التي يريدون أن نعرفها... وليس الحقيقة كما هي.
ولا يأتِ أحد ليقول لي بأن العلماء يجتهدون في ترميم شظايا التاريخ، ينسجون الفرضيات كما ينسج العنكبوت بيته، هشًّا، متصدعًا عند أول ريح. ما هذا إلا وهمٌ نُغذَّى به، حقيقة مُعلبة تُقدَّم إلينا وفق ما يُراد لنا أن نصدّقه، لا وفق ما كان حقًا. فليست المسألة في تعدد الروايات، بل في يد خفية تعيد تشكيلها، تحدد لنا ما نعرفه وما يظل مدفونًا تحت ركام الأزمنة.
التعليقات