لم يتغير شيء؛ كلمتان فقط تكفيان لوصف حال السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، حتى في ظل الإدارة الجديدة بعد أكثر من شهرين على تسلمها البيت الأبيض وتوليها إدارة شؤون البلاد. فلم نشهد أي تغييرات حقيقية على أرض الواقع فيما يخص الحرب الروسية الأوكرانية أو الحرب الإسرائيلية على غزة، كما كنا نتوقع بعد وعود الرئيس ترامب السياسية، حيث تعهد بإنهاء الدعم الأمريكي لأوكرانيا في نزاعها مع روسيا، وصرّح بأنه الوحيد القادر على إنهاء الحرب بينهما ومنع اندلاع حرب عالمية ثالثة. كما أبدى التزامه بإنهاء الصراع بين إسرائيل وحماس وتحقيق اتفاق سلام دائم بين الطرفين دون شروط مسبقة.
في هذه الحالة، هل تعي السياسة الخارجية الأمريكية مفهوم تحقيق السلام ووضع حد للصراعات كما هو متعارف عليه، أم أنها مجرد أجندة يجب تحقيق نتائجها؟ وهل ستظل وعود الرئيس ترامب بشأن السياسات الخارجية مجرد حبر على ورق؟
قبل الأشهر القليلة الماضية، وقبل أن يستعيد الرئيس ترامب مفاتيح البيت الأبيض، وخلال حملاته الانتخابية، وعد بتبني نهج "أمريكا أولًا"، ويبدو أنه كان ملتزمًا بذلك إلى حد بعيد. فقد كان يشدد في الوقت نفسه على أنه الوحيد القادر على حل النزاعات وإنهاء كل من الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية في غزة. ولكن هل كانت للرئيس ترامب نوايا أخرى غير إحلال السلام في مناطق النزاع؟
بعد تولي ترامب الرئاسة وتعيين ماركو روبيو وزيرًا للخارجية، بدأ الرئيس في السعي لتحقيق وعوده فيما يخص السياسة الخارجية الأمريكية وتقليل التدخلات الخارجية، وذلك من خلال التفاوض على اتفاقيات سلام واتفاقيات اقتصادية أيضًا مع أوكرانيا. ووفقًا لمقال نُشر في موقع "رويترز"، فقد اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنشاء إدارة مؤقتة في أوكرانيا تحت إشراف الأمم المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، كشف تقرير لصحيفة "ذا صن" عن مطالبة الرئيس ترامب لأوكرانيا بتسليم نصف عائداتها من النفط والغاز ومعادن أرضية أخرى، مما أثار جدلًا واسعًا وانتقادات حادة. وفي تقرير لشبكة "CNN"، أُعلن أن الرئيس ترامب سيوقع اتفاقًا "قريبًا جدًا" مع أوكرانيا بشأن المعادن الأرضية، والذي يُعد نوعًا من دفع فاتورة الدعم العسكري والسياسي لها.
وانطلاقًا مما وصفه الرئيس الأمريكي بـ"الحرب العبثية" المستمرة منذ ثلاث سنوات، يتضح أن ترامب جاء لحصاد ما زرعه سلفه الرئيس جو بايدن بعد كل الدعم الأمريكي الضخم المقدم لأوكرانيا، سواء على شكل مساعدات عسكرية أو اقتصادية في حربها ضد روسيا. ومع كل هذه المطالب والشروط من الطرفين الروسي والأمريكي، فإن فرص التوصل إلى اتفاق سلام شامل تظل ضعيفة، بينما يبقى المطلب الأساسي للشعبين الأوكراني والروسي هو السلام والأمن، وليس مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار.
أما فيما يخص السياسة الخارجية الأمريكية مع حليفتها الأبدية إسرائيل وحربها في غزة التي تجاوزت عامًا ونصف، فقد نالت هذه الأزمة نصيبها من الوعود الانتخابية. ووفقًا لمقال نشرته صحيفة "نيويورك بوست"، فقد التزم الرئيس ترامب بتحقيق السلام الدائم بين إسرائيل وحماس، لكنه أعرب في الوقت ذاته عن عدم ثقته برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مما أثار العديد من التساؤلات.
وفي يناير الماضي، ووفقًا لمقال نشرته صحيفة "El País"، اقترح الرئيس ترامب خطة مثيرة للجدل تتضمن نقل 2.3 مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى الأردن ومصر لإنهاء الحرب في المنطقة. وقد حظيت هذه الفكرة بترحيب ودعم كبير من الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو، بينما قوبلت برفض شديد من جانب حماس والسلطة الفلسطينية. وفي فبراير، أكد الرئيس الأمريكي نية الولايات المتحدة فرض سيطرة كاملة على قطاع غزة وإعادة توطين السكان الفلسطينيين، وتحويل المنطقة إلى "ريفيرا الشرق الأوسط"، على حد وصفه، كوسيلة للضغط من أجل تحقيق السلام، ولكن دون أرض للفلسطينيين.
إضافة إلى ذلك، استأنف الرئيس ترامب إرسال القنابل إلى إسرائيل، في حين أن الرئيس السابق جو بايدن كان قد أوقف هذا النوع من الإمدادات لتجنب استخدامها في غزة. وبينما كانت هناك آمال في وقف الحرب وإبرام اتفاق سلام، تجددت المعارك في قطاع غزة بعد انتهاء وقف إطلاق النار، مما زاد من تعقيد القضية وأبعدها عن الحل.
إذن، ما هو المعنى الحقيقي لإحلال السلام بالنسبة للجانب الأمريكي؟ وما تأثير السياسة الخارجية الأمريكية على اتفاقيات السلام؟
في النهاية، لم يتبقَّ لنا سوى إدراك أن السياسة الخارجية الأمريكية لا تعترف بأي حزب، سواء كان ديمقراطيًا أو جمهوريًا، ولا تتأثر بأغلبية مجلسي النواب والشيوخ، ولا حتى بمن يشغل المكتب البيضاوي ويحمل مفاتيح البيت الأبيض. فقد تطورت السياسة الخارجية الأمريكية من مجرد سياسة تعتمد على الشخصيات السياسية إلى أجندة يجب تحقيق أهدافها، وهي قائمة على مزيج من الواقعية الهجومية والواقعية الدفاعية إلى حد كبير. وأكبر دليل على ذلك هو الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر وأبرز داعم للطرفين الأوكراني والإسرائيلي.
فالسياسة الخارجية لأمريكا لا تتغير، وإنما كل شيء من حولها يتغير، إلا هي، تظل الثابت الوحيد، حتى ولو كان ذلك على حساب السلام.
التعليقات