لا أدري كيف أبدأ حقيقة...
للتعريف بنفسي أنا أدعى "أماني ثنائي قطب" كإسم مستعار... يكفي أن تصل حروفي إلى قلب من يقرأها، لأنني أريد أن أكون كاتبة حول اضطرابي العقلي بروح ورسالة...
أنا مصابة باضطراب ثنائي القطب الصنف الأول (اختلالات في كيمياء المخ تسبب اضطرابات مزاجية متطرفة ونوبات هوس واكتئاب حادة) ... المرض لم ينطلق داخل عقلي في سن السادسة عشر أو الخامسة عشر كما يظن الأطباء.. أو كما ظننت أنا سابقا..
المرض بدأ قبل سنوات كثيرة ونتاج تراكمات عديدة انطلقت من قلبي، وما حدث على شكل مرض كان مجرد نتيجة لكل الأحداث التي سببت انهيارات عاطفية أولا...
حسنا... كيف بدأ المرض... من منظوري أنا كمريضة؟
بدأ المرض عندما أصبحت واعية بعلاقة أمي وأبي المضطربة، وعندما اضطررت لاختيار طرف على حساب آخر..
فتحت عيناي على أبي الذي كان مريضا بثنائي القطب، وأمي التي تدعي المثالية وعيشها في البؤس الذي سببه لها أبي، هي ضحية مسكينة قامت بالتضحية بحياتها وشبابها ومستقبلها المهني لأجله ولأجلنا نحن أطفالها، تشعر بالندم الشديد لهذه التضحية، وتتمنى لو أنها قامت بركل رجل مثله خارج حياتها... رجل لا يبتسم أبدا وقليل الكلام، لا يعمل من أجلنا ويمضي نهاره وليله في النوم، من الممكن أن يكون بخير وهو في أسوأ حالاته لكنه لا يريد ذلك، فهو أبله سفيه كسول غير مسؤول ولا يبالي...
مع الأسف الشديد كان هذا ما تزرعه أمي في عقولنا نحن أطفالها حول أبي، فكبرنا ونحن نحقد عليه حقدا شديدا، نكرهه ولا نعامله جيدا، نشعر أننا ضحيته وضحية كونه مجرد إنسان سيء شرير.
لكن.. لأن الأبصار تظهر في القلوب والأحاسيس لا في النظر، جاء صيف السادسة عشر من عمري.. جاء على شكل يوم أعلن فيه عقلي افلاته مني، حينها جربت أسوأ المشاعر وأسوأ اللحظات الممزوجة بكثير من التيه والاكتئاب والهوس وجنون العظمة، حينها ولأول مرة شعرت بما يشعر به أبي...
في ذلك الوقت فهمت مصطلحات كثيرة صامتة لم يكن ينطق بها والدي... كالأفق المميت الذي لا امل فيه، والتشتت الذي يرافقه عقل مجنون بأفكار لن تكون... إضافة إلى النوبات التي تصنفنا كمجانين وتنزع عنا المستقبل والأهلية...
فهمت الكثير من الاشياء.. أشياء أرتني الحقيقة... الحقيقة البشعة لمريض نفس وعقل يساء فهمه، والحقيقة المؤلمة في أن أبي مختلف عن رواية امي تماما...
فأبي كان مجرد إنسان مريض يعيش حياته ببؤس شديد، يبحث عن الحب والقبول فلا يجده، ويبحث عن فرصة للعيش بطريقة أفضل فلا يجدها، يبحث عن حضن يحتويه أو قلب يفهمه أو حتى عقل يفكر بمنطقية ولو قليلا حول حاله فيعذره فلا يجد من هذا شيئا، رغم ذلك أمضى حياته صابرا وصامتا ومتسامحا، راميا كل ما حمله قلبه من هم لله، فرحل بالهدوء الذي عهدناه به، مبتسما لمرة أخيرة ووجهه يشع نورا....
رحل مع صدمة لا تزال ترافقني للآن، صدمة لم أعي من أين أتت أو كيف حدثت.. لا زلت أشتاق إليه جدا، أشتاق إليه وفي قلبي سعادة ورضى قليل... قليل لأنني أصلحت علاقتي معه رحمه الله ومحوت ذلك الحقد اتجاهه قبل وفاته بفترة لا بأس بها..
في المقابل حقدت على أمي لأنها لم تفهم ولم تعي شيئا حوله وحكمت عليه بذلك السوء وحرضتنا عليه، عندما أفكر في مسامحتها أقول بيني وبين نفسي أنها مجرد إنسان لم يكن يعيش حالته، وشخص أَحَبّه ربما بالمقدار الكافي الذي جعله يراه كشخص عادي لدرجة عدم تقبل مرضه، وكأنها تقول "أنت من أحببتني واخترتني لأكون زوجتك كيف تجرؤ على فقدان عقلك وتسجيل غيابك الحضوري في حياتي..."
لكن كل هذا الكلام يمحى من تفكيري بأسئلة تراودني "لماذا جعلتنا نحن أطفالها ندخل في هذا الصراع؟ أليس أبي هو أبي فحسب؟ هل سأكرهه لأنك تكرهينه؟"
ثم أجد أنني أشفق عليها وأشكر الله، أشفق عليها لأنها لم تفهم، وأشكر الله لأنه منحني مرض والدي..
ثم أعود لأتساءل ثانية.. هل يحق لها التمني مثلا...؟ تمني ترك حياتها القاسية لعيش حياة أفضل بطريقة أنانية؟
حينها نظرت إلى شعرها المتساقط وعينيها الذابلتين من التعب، ونظرت إلى صحتها المهترئة وجسدها البالي..
فعلمت أن هذا كان من السنين القاسية التي عاشتها مع أبي رحمه الله، فليس من السهل أبدا التعامل مع شخص مريض خاصة بثنائي القطب....
انقهرت أمي بكثير من الأشياء، أولها عدم قدرتها على الاستيعاب، استيعاب أبي المريض واستيعاب أنه مريض...
فتركت حياتها وتركت شبابها بندم وقلة حيلة... ثم آتي أنا في النهاية لألومها على التمني، حسنا يا أمي يمكنكِ التمني إن كان هذا عزاؤك لنفسك، أنا آسفة عليكِ وعلى أُسْرتنا..
في النهاية.. الاضطرار لاختيار أمي على حساب أبي... والنظر إلى الأمور بمنظور أمي هو ما أيقظ هذا الوحش بداخلي، وكأنه كان يحمل رسالة لي.. رسالة لي كإنسان جعلتني أبصر الحقيقة بقلبي، وأكون أنا بعيدا عن معتقدات أمي..
التعليقات