لكل شخصٍ منا نظرته للأمور، هناك من يميل إلى التشائم وثمة من نظرته تميل إلى التفاؤل، وفي الأخلاق نجد الإختلاف الشديد بين النظرات، كلٌ يحكم عليها من خلال تجاربه وفلسفته في الحياة، فهناك من يظن أن العالم جحيم دون الأخلاق وأنه سيكون مرتع للشرور، وغيره من يرى أن الأخلاق عائقٌ صنعه المجتمع البغيض في طريق الأحلام..هناك من يرى الأخلاق سبيل نجاة، وهناك من يراها طريقة مثالية للعيش في بؤسٍ وشقاء، ولكن مع اختلاف الآراء وتضاربها وتنوع غرابتها لم يفشل ديستويفسكي كالعادة حين أدلى بدلوه في هذا الصدد في أن يلفت انتباهي بنظرته نحو الأخلاق بصفاتها المختلفة "البراءة والإيثار واللطف"

فيقول دوستويفسكي عن الأخلاق والخلوقين:

"إن كان يظهر عليك ويمكن وصفك بالبراءة، والإيثار، واللطف، والأخلاق الرفيعة، والصدق، والوضوح، والعطف، ومحبة كل من حولك حيث أنك لا تملك ضغينة تجاه أحد فأنت "أبله" بكل تأكيد!"

ويكمل موضحاً السبب:

"ليس سبب هذا أن هذه الصفات سلبية، وإنما لأنك تعيش في وسط المجتمع المُنحط والفاسد والمليء بالقذارة الأخلاقية، مجتمع يرى البراءة سذاجة، واللطف ضعفًا، والأخلاق يراها موضة قديمة، والصدق دليل عدم قدرة على المراوغة... وهكذا، صار من يعيش بقلبٍ سليم هو الأبله، والماكر في مجتمع الذئاب هو الذكي! "

فهل بالفعل مثل تلك الصفات الرفيعة تقع تحت بند "البله"؟! ، إنني حين أرى شخصاً طيباً للغاية أنصحه بألا يكون كذلك لأن العديد يرونه ساذج، كما أن التطرف في الحسن قبح، فالطيب جداً قد يصل لدرجة أن الجميع يخدعونه ويستغلونه ويبخسون حقه، فالأخ "الطَّيب" يأكل أخوت الجشعين حقَّه في الميراث، والطالب اللطيف والرقيق زيادة عن اللزوم يتعرض للتنمر والأذى من زملاءه، والمتسامح بغير حدود ولا يجيد أخذ حقه في بعض المواقف التي تتطلب ذلك، نجد جاره يجور عليه فيقطتع من الشارع لصالحه ويأذيه إن كان ليس أميناً.

ولعل ذلك هو مأخذي الوحيد على الأخلاق، وهذا المأخذ يمكنني أن ألخصه في جملة واحدة وهي :

"لا افراط في الأخلاق ولا تفريط، فالشئ الذي يزيد عن حده ينقلب لضده"

ولكن ديستويفسكي لا ينظر للأمر بتلك الطريقة، بل يرفض الأخلاق من الأساس وحجته "أن المجتمع فاسداً"، وإني أرى من وجهة نظري أن نظرته غير منطقية بعض الشئ..

فلو سألنا سؤالاً وقلنا: مما يتكون المجتمع؟ ستكون الإجابة "من الناس" بلا شك، إذن لو استمعنا لرأي ديستويفسكي في هذا الصدد ومحونا الأخلاق من حياتنا واندمجنا مع المجتمع السئ والناس السيئين بسوؤنا، إذن ماذا فعلنا سوى أن زدنا بسوءنا رقعة السوء في المجتمع وأصبحنا جزءاً منه!

فنحن بتلك الطريقة مشاركين في الجرم ولسنا ضحايا السوء في المجتمع.كما أن سوء المجتمع يمتحن صدق الأخلاق ويبين الغث منها والثمين.

وسؤالي لك هنا...كيف يمكن للمجتمع بأن يحولنا بالتدريج من طيبين لأشرار؟ وهل الشخص الخلوق في المجتمع المريض أبله؟