لا يزال سؤال الرقي والازهاد على جميع المستويات يؤرق الدول ، سواء النامية منها أو التي وصلت مرحلة الرقي العليا .
إن أول محاولة لقراءة نمو الحضارات في مجالات التعليم والهندسة والطب والرياضيات ،ستتوقف بلا شك عند ما وصلت إليه دول العالم اليوم أو لنقل في آخر ثلاثة قرون. لكننا لم نبحث بين ثنايا تاريخ الأمم السابقة وإن كان ما وصل من تاريخها حتى اللحظة، قد لا يعدو في بعض الحضارات أربعين في المئة من تاريخ تلك الشعوب ، نتيجة لقلة البحوث الأثرية ، ونظرا للعوامل الطبيعية والتاريخية.
ولو حاولنا مقارنة حضارتين في الشرق القديم وهما مصر و بلاد الرافدين ، سعيا لإسقاط ما وصلتا إليه ونظرنا في حالة دلتا وطيبة قبل خمسة آلاف سنة، وكيف هي القاهرة والإسكندرية اليوم ؟ و كيف كان السومريون والبابليين وكيف أصبحت العراق في أوج ازدهارها ؟
قبل أن نبدأ في تلك المحاولة يجب أن نُفْهمَ القارئ أننا نعي الفوارق بين الفترتين ، وإنما نسعى إليه هنا هو مقارنة التطور في مجالات معرفية أسهم فيها العقل بأفكار طبقت على أرض الواقع ،ونتساءل عما إذا كانت المعارف التي نتفاخر بها اليوم هي موروث أخذناه من تلك الحضارات ؟ و ادعينا اكتشافه اليوم ؟
لقد شكل عام 3200ق.م لحظة توحيد الملك مينا لمصر العليا والسفلى وبقيت هذه الحضارة بشواهدها من معابد وأهرامات، وما عثر عليه في مقابر واد الملوك ،سياحة إلى اليوم ومجال بحث .
إن مصر القديمة بلغت ما بلغت من التطور في شتى المعارف والعلوم ، فقد أثبتت الأبحاث والرسومات أن المصريين مارسوا الطب منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد ، فكانوا بذلك عارفين لطبيعة جسم الإنسان فحنطوا أمواتهم والذين ماتزال التنقيبات الأثرية تكشف عنهم .تذكر المخطوطات المصرية القديمة أن أحد الكهنة الكبار إمحوتب هو الذي يعتبر مؤسس علم الطب في مصر القديمة ،فطبقا لنظرتهم اعتبروا القلب العضو الأساسي في جسم الإنسان. وتخرج من القلب إلى جميع الجسم أوعية metu تزودها بالهواء والماء والدم. وشبه المصري القديم حالة الأوعية في الإنسان بمجرى نهر النيل وفروعه. فإن النيل يمد الأرض بالماء فتصوروا أنه يوجد في جسم الإنسان نظاما مماثلا من الأوعية تغذي مختلف أعضاء الجسم بالمواد الضرورية للحياة وتنقل النفايات.
وذكرت المخطوطات القديمة أن المصريين عالجوا أمراضا خارجية وباطنية في الجسم منها :وجع الدماغ والصداع ،العيون ،والأذن وأمراض اللسان والاعوجاج والالتهابات والأورام الرئة والكبد والمعدة والقلب ، والبدن.
وقد استخدم الطبيب المصري القديم أدوات بدائية منها المشرط والسكين والملقاط والكماشة .
إن هذه المعلومات الأولية لتعطيك تصورا ،عما كانت عليه تلك الحضارة بوسائل بسيطة في مجال الصحة ، فهل مصر اليوم من الناحية الصحية تعالج مكان أسلافها يعالجون من أمراض ؟
إن العملية ليست بتلك السهولة وتحتاج إلى دراسة ميدانية داخل المستشفيات في مصر اليوم ، لكننا حين نقارن الوسائل والظروف لنجد أن مصر القديمة كانت في قمة النمو الصحي ، لقد كان في كل مكان طيب يعالج المرضى ، ولعلنا لم نعطي لهم قيمتهم كونهم عالجوا أمراضا، أحيانا نعجز أن نعالجها اليوم بوسائل وإمكانيات أكثر .
منذ أيام ليست بكثيرة تحدثت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر عن تدشين شبكة طرق، وتشيد مدن سياحية بمعايير الجودة المعمارية،وقبل ثلاثة آلاف سنة كان الفراعنة قد وصلوا إلى مرحلة الرقي في الهندسة والعمارة .
لقد أكدت المخلفات المادية الثابتة اليوم في مصر من أهرامات والتي بنيت على أساس معماري رياضي كما يوضح تساوي المثل العلوي . وكما وجدت المقابر والقصور ودور المعابد والتي ما زالت باقية في وجه عاتيات الزمن. في وقت مبكر من عام 2600 قبل الميلاد، استخدم المهندس المعماري إمحوتب أعمدة حجرية نحت سطحها ليعكس الشكل العضوي للقصب المجمّع، مثل ورق البردي و لوتس و كف، نخلة.
إن ذلك التطور و الدقة اللتان سادتا ذلك العمل ومقارنتهما بما يشيد اليوم من بنايات وطرق لا تلبث أن تنهار في أول اختبار تواجه أمام العوامل الطبيعية ، يجعلنا نقول ،إذا لم يكن المهندس المعماري المصري القديم أكثر تطورا من الحديث والمعاصر فإن أعماله كانت أكثر تفاني وقوة وهو ما جعلها اليوم وجه مصر الحضاري .
وعلى أرض الهلال الخصيب أو بلاد الرافدين قامت حضارات متعاقبة ،لعل من أبرزهما حضارتين بقيتا خالدتين في الكتب القديمة ونحن نتحدث هنا عن “السومرية ” والبابلية ”
لقد كانت بلاد الرافدين خصبةً من المعارف والعلوم في تلك الحقبة، فقد برع البابليون في علم الفلك فدرسوا النجوم والكواكب وفهموا الخسوف والكسوف، واستطاعوا أن يقسموا السنة إلى ثمانية عشر شهراً في كل شهر عشرون يوماً و أضافوا خمسة أيام للاحتفال فكانت أيام سنة كماهي اليوم . أليس ذلك تطورا ليس له مثيل ؟
هل وصلت بلاد الرافدين في عصور ازدهارها في الفترة الحديثة والمعاصرة إلا اكتشافات فلكية كما حدث أن ذلك ؟ولم يكتف سكان تلك المنطقة بالفلك فقط، بل كانوا بارعين في الرياضيات ، فقد وضعوا نظام عد شهري ستيني وهو الذي أعتمد اليوم في الساعة . وتبين الكتابات أن سومر خطوا الخرائط، معتمدين على تلك المعرفة التامة بتلك الحسابات الدقية ، فهل يمكن أن تكون خرائط سومر موازنة لخريط غوغل اليوم ؟
إن كل هذه التقنيات التي وصلتنا عن هاتين الحضارتين العظيمتين الفراعنة وبلاد الرافدين وغيرهما في إفريقيا وآسيا وأمريكا وما قد يكشف عنه في السنوات القادمة يجعلنا شأنا أم أبينا مجبرين على الوقوف احتراماً لتلك الحضارات التي ينظر إليها من البعض أنها شعوب بدائية لا إنتاج لها وكل ذلك مردود ،لكننا لم نقرأ التاريخ جيداً ، فلو قرأناه لوجدنا أنهم ربما كانوا أكثر رقيا منا .
التعليقات