أظن أن العنوان قد قام بشرح المضمون جزئياً وتفسير بعض التفاصيل نسبياً، فجميعنا على علمٍ بأن العبودية بمفهومها القديم أمر قد انتهى وولت أيامه منذ زمن بعيد، إلا أن مظاهرها وبكل أسفٍ لازلت تعيش في أقوال وأفعال وتصرفات كثيرٍ منا حتى يومنا هذا، لذلك اخترت أن تكون أولى مساهماتي هنا نقداً لأعظم فيلمٍ سبق وأن شاهدته يتحدث عن العنصرية التاريخية بين أصحاب البشرة البيضاء وأصحاب البشرة السمراء، والمتابع الخبير يعلم تماماً عن أي نوعيةٍ أفلامٍ أتحدث، فهي بالتأكيد قريبة أو متعلقة أو مكملة لأفلام كـ (The Color Purple - The Help - Roots - Selma)، وهذه النوعية تحديداً هي من أشد تصنيفات الأفلام التي تجذب انتباهي وتثير اهتمامي ومن ثم إعجابي لاحقاً بعد مشاهدتها، لأنها تقوم بتجسيد تفاصيل الأحداث التاريخية لشخصياتٍ عاشوا في حقبةٍ معينة من الزمن بصورةٍ يسهل تناولها وسردها واستيعابها وتقبلها من المشاهدين.
وكما نعلم فإن تاريخ العبودية معروف، وهناك مئات من المجلدات والروايات والحكايات التي كتبت ووصفت فيه وسردت وحكيت عنه، ولطالما سمعنا عن العنصرية الصارخة بين أصحاب البشرة البيضاء والسمراء، وعن حياة سُمر البشرة كخدم وعبيد لأسيادهم الملوك أصحاب البشرة البيضاء، ولطالما قرأنا أيضاً عن الاضطهاد الذي كان يحدث لهم يومياً في المنزل والشارع والمدرسة والسوق، لدرجة أن حقوقهم البسيطة والبديهية في الحياة بقيت أقل من نصف حقوق أصحاب البشرة البيضاء لفترةٍ من الزمن وذلك على الرغم من اعتراف الحكومة رسمياً بحريتهم!
ولكني صدقاً لم أتوقع نهائياً ولم أتخيل أبداً أنني سأشاهد فيلماً يحكي بإتقانٍ عن جحيم الحياة في العبودية، ويصف الأحداث التاريخية المأساوية المرافقة لهذه الحياة بهذا الإبداع والإقناع والإمتاع، ولا بهذا البؤس واليأس والكئابة التي عاينتها بنفسي مع أحداث فيلم 12 Years A Slave !
والذي أشرف على إخراجه المتألق Steve McQueen، وشارك في إنتاجه النجم العالمي Brad Pitt بدورٍ صغير ولكنه مؤثر كالعادة، كانت نتيجته أن يحصد الفيلم أربعة جوائز أوسكار -لأفضل فيلم وأفضل سيناريو مقتبس وأفضل ممثلة مساعدة بالإضافة لأفضل صورة ملتقطة- مع تحقيقه لنجاح رهيبٍ ورواجٍ هائل في كافة الأوساط الفنية المختلفة فور نزوله.
وبكل بساطة، يجسد الفيلم الجانب الأكبر والطاغي من مذكرات "سلومون نورثب" التي تحمل نفس اسم الفيلم، ويظهر المعاني الحقيقية لمفاهيم كالغدر وانعدام المشاعر وطبيعة العواطف والأحاسيس الإنسانية بطريقة محكمة ومتقنة، ويصور النفس البشرية في أبشع وأسوء صورها، ويناقش العنصرية من زاويةٍ تظهر أشد وأقصى مراحلها شراً على الإطلاق، ويجيب حرفياً عن أسباب انتحار الثقة بالبشر وتكذيب الحقائق الظاهرة رغم علامات صدقها الواضحة، ويؤكد على أهمية التشبث بآخر خيطٍ ضعيفٍ من حبال الأمل، والمثابرة للوصول إلى الهدف حتى آخر رمق في الحياة، مهما كان حجم وقدر الانكسار النفسي والمعنوي كبيراً وقادراً بسهولة على إقناع الإنسان برفع راية الاستسلام سريعاً.
مجرد خطاب هو كل ما كان يحتاج إليه "سلومون" ليعود حراً وتعود إليه حريته، أمرٌ بسيطٌ للغاية نستطيع القيام به بكل سهولةٍ ويسرٍ وراحة ورفاهية، عانى هو بسببه لمدة 12 عام في العبودية!
فاضطهد وأهين وهو المهندس المتعلم، وضُرب حتى نزف وهو الأستاذ والمُربي، وعومل بأشد أنواع القسوة واللا إنسانية الخالية من أي رحمة موجودة على هذا الكوكب، فقط لأنه لم يتمكن من أن يبعث بمجرد خطابٍ حتى ينقذه أحدهم من أهوال هذا الجحيم!
تأثرت جداً بمشهدٍ كان الأكثر إيلاماً -من وجهة نظري-، يشاهد فيه بطلنا واقعة جلدٍ دمويةٍ لأقصى حد لأنثى من نفس جنسه ولونه دون أن يحرك ساكناً، ثم وبعد لحظاتٍ يستفيق من هول الموقف الذي لا يحسد بالطبع عليه، ومن شدة القهر والخوف والعجز يتلعثم قائلاً للجلاد العنيفِ جملةً متقطعةً لا تبرهن سوى عن مستوى اليأس الذي تملكه وتمكن منه:
"أنت شيطان..
عاجلاً أم آجلاً..
في مكان ما بالطريق إلى العدالة الأبدية..
سوف تحاسب على هذه المعصية"
هذا المشهد جعلني أفكر مجدداً وملياً في حجم الجرائم وكم التجاوزات التي بدلاً عن اختيار مواجهتها، نقوم بتقبل وجودها والتعايش معاها، لخوفنا وخشيتنا من التكلفة الصعبة للمواجهة من جهة، وليقيننا من جهة أخرى بأن ظهور العدالة السماوية النهائية لمعاقبة المتسبب وإنصاف المتضرر هي مسألة وقت ليس إلا!
وتخيلت إلى أي مدى كان بإمكاننا تطوير العالم أخلاقياً واجتماعياً وسلوكياً، فقط لو أن فكرة الحياة الأخرى المثالية ذات العدالة الإلهية المطلقة لم تكن موجودةً ومنتشرةً بين البشر، لكوني أرى بأن التسليم والإيمان بوجود عالمٍ مثالي آخر خالٍ من مشاكل وشرور ومفاتن عالمنا، وتصديق أن كل ما نعيشه ونمارسه ونشعر به لا وجود ولا مكان له في ذلك العالم المثالي الذي لم نستطع الارتقاء إليه بعد، هو السبب الرئيسي -من وجهة نظري- في أن كثيراً من البشر تقبلوا ما لا يمكن تقبله على اعتبار أنه ثمنٌ عادلٌ ومطلوبٌ لتحقيق سعادةٍ وراحةٍ أبدية في النهاية!
ويبقى الفيلم غنياً بكثيرٍ من المشاهد المؤلمة، ومليئاً بكثيرٍ من العبارات التي تحمل من المعاني والقيم والمبادىء ما لا يزنها الذهب وزناً ولا قيمة، والتي قد تم تناولها بشكل مؤثر جداً وعبقري بحق، كالجملة العظيمة التي قالها سلومون بكل أمل ممتزج بيأس مكتمل الأركان، وهو على متن السفينة التي تأخذه ليتم عرضه في سوق العبيد:
"I don't wanna survive, I wanna live"
وغيرها العديد من المواقف المعبرة والجُمل المؤثرة والعبارات المميزة، والتي تركت في نفسي أثراً كبيراً، وأضافت لذاتي جزءاً لا بأس به من القيم والمعاني المفقودة.
وفي النهاية لا أستطيع القول سوى أن تقييمي للفيلم هو علامة كاملة بأحقية وامتياز ساحق، فهو فيلم بإمكاني مشاهدته مراتٍ عدة دون أن يصيبني الملل أو الكلل، وقد استطاع حجز مكانه بكفاءةٍ واستحقاق كامل في قائمة أفلامي المميزة، والتي لا يُكسر عرينها في العادة سوى ما أعتبره طفرةً وعلامةً سينمائية قيمة بحق.
التعليقات