تمهيد: منذ أن تفتّحت أعين البشرية على مفاهيم الحكم التشاركي، والتداول السلمي للسلطة، والحقوق المدنية، وُلدت فكرة الديمقراطية كأمل إنساني كبير، بل كحلم سياسي يُنقذ المجتمعات من طغيان الفرد وهيمنة السلاح وسطوة العسكر. غير أن التاريخ، والواقع، والدراسات، والممارسات اليومية، بدأت تسحب شيئًا فشيئًا هذه الهالة المثالية عن الديمقراطية، وتعيدها إلى طاولة التفكيك والنقد الجذري. فهل الديمقراطية اليوم تعني حقًّا تمثيل الإرادة الشعبية؟ أم أنها أُفرغت من مضمونها، وصارت أداة تجميلية لاستبداد أكثر تعقيدًا؟ -في أصل الفكرة... الديمقراطية كقيمة لا
كأنَّ الأرضَ قد تهيّأت
أيّ سرٍّ هذا يجعلُ الناسَ يتفجّرون خدمةً من غير وعد؟! أيُّ نداءٍ غيرُ مسموع هذا، يُزلزلُ في القلوب مكامنَ الطمأنينة، ويدفعُ الفقراء لأن يقتسموا اللقمةَ مع غرباء، لا يسألونهم اسمًا، ولا يسألهم أحد عن سببِ هذا الجُود المُذهل؟ ما إن يقترب الموعد من العشرين من صَفر، حتى يُصاب هذا البلد بحمى الحب، فينهضُ اهلوهُ كما المجانين، ينصّبون المواكب، ويشحذون السكاكين، ويغلون القدور، ويرفعون الرايات، وكأن الحسين سيمرّ بعد لحظة... مشهدٌ لا يُشبه شيئًا على الأرض. في الطرقات التي تربط المدن
خُطَبٌ مُشبِعة
في مساءٍ كئيب، جلس طفلٌ غزّيٌّ على رُكامِ منزله، ممسكًا برغيفٍ من رغبةٍ، لا من دقيق، يتأمل السماء التي لم تُمطر غير القذائف، ويُصغي لهواءٍ ينوح من وطأة الجوع، كأنّه يشارك أهله أنينهم. إلى جواره، جدارٌ يتيمٌ من الإسمنت، لم يُقصف، صار أنيسه الوحيد... وما أغناهُ هذا الطفل لو تناول في إفطاره بيانًا، وفي غدائه تصريحًا، وفي عشائه خطبةً ناريّة من أحد الزعماء! وما ألذّ البيانات حين تُلقى في قصورِ الحكم، بين أطباقٍ مذهّبة، وتحت ثُريّاتٍ تضيء بترف، كأنّها تشمتُ
لم يكن بكاءً بل عهد
بالرضا مشى، وباليقين توجّه، لا يجهل ما ينتظره، ولا يستبطن وهم النّجاة. خرج الحسين من المدينة، وكان يعرف أنّ الطريق إلى كربلاء ليس معبّدًا بالعودة، بل مفروشٌ بالدم، محفوفٌ بالخذلان، ممهورٌ بالخاتمة التي لا ينجو منها إلّا من قُتِل. ليس في الدم وحده ما يخلِّد الشهيد، ولا في أهوال الموت ما يرفع الذكر، فإنّ مقابر الأرض ملأى بمن قُتلوا، وصلبوا، وسُفكت دماؤهم ظلماً، ولكنَّ التاريخ لم يُنشد لهم مرثيّةً خالدة، ولم تُقِمِ الأرواحُ لمصابهم عزاءً سرمديًّا. فما السرّ الذي جعل
كربلاء من المنبر إلى الصاروخ
لن يكون هذا المحرَّم كسابقيه، ولن يمرّ كرقمٍ عابرٍ في تقويمٍ تبلّدهُ العادةُ وتُخدّرهُ الطقوس. لقد جاء مختلفًا، مهيبًا، كما لو أنّ الزمن ذاتهُ قد انتفض من غفلته، وكأنّ الحسين عليه السلام نادى من لُجَّة التاريخ: " آن أوانُ المبدأ أن يُمتحَن!" ما كنتُ ممن تستهويهم المواقف العاطفية، لكن شيئًا في هذا المحرّم مختلف، شيء يجعل الوجدان ينتفض لا طوعًا لعاطفة، بل طاعةً لنداء مبدئيٍّ خالص، لا يشوبه ولاء لأسماء ولا انتماء لرايات، بل انقيادٌ نقيٌّ لفكرةٍ انطلقت من كربلاء،
الغديرُ الذي روى الدينَ كمالًا
لم يكن ذلك النهار كسائر الأيام. كانت الشمس واقفةً في كبد السماء، كأنها تأبى المغيب حتى تُشرف على لحظةٍ لا تتكرر، لحظةٍ تكتب الزمان بمدادٍ جديد. وكان الناس، على جفاف الهجير ووعورة الطريق، وقوفًا حول نبيّهم، ينتظرون ما سيُقال، لا يعلمون أن الذي سيسمعونه اليوم، سيُصبح الحدّ الفاصل بين تمام الدين ونقصه، بين النور والظلمة، بين الحيرة والهداية. هناك، في غديرٍ يُدعى "خمٍّ"، تكلّم النبي. تكلّم لا بلسانه فقط، بل بكلّ ما أوحي إليه، بما قضى به الوحيُ على مدار
الواقفُ على عرفات...واقفًا في كربلاء
في ظهيرة عرفة، حين كانت الشمس تميل على جبل الرحمة، وحين كانت أفواج الحجيج واقفة بقلوبها المرتجفة تدعوا الله في الزحام، وقف الحسين. لم يكن واحدًا من الواقفين فحسب، بل كان واقفًا من نوعٍ آخر، كأن الأرض تفهم لغته، وكأن الهواء يتنفس دعاءه، وكأن الوجود كله ينصت. بدأ بالدعاء، لكن شيئًا ما في الدعاء لم يكن كالدعاء. لم يكن التوسل استجداء، بل كان اعترافًا حارًا بجميلٍ لا يُحصى، بوجودٍ لا يُفهم، بحضورٍ يتخلّل كلّ شيء. كان صوته يخرج وفيه نبرة
أسماء تتبدل، الجولاني بين وهم المبادئ وسلطة الهوية..
يُقال في الموروث العربي: "للرجل وجهٌ واحد واسمٌ واحد". لكن السياسة — كعادتها — تُكذّب الأمثال. بعد 2003، تحت الاحتلال الأمريكي للعراق، عبر شابٌ سوري الحدود حاملًا اسمًا مزوّر: "أمجد مظفر حسين"، كانَ يحملُ عقيدةً تُقسم العالم إلى "مجاهدين" و"كفّار". انتمى إلى تنظيم القاعدة العراق، وفي مخيّلاته معركة مقدسة، لا تعرف رماديات المصالح ولا تعترف بمنطق الدول... لكن التاريخ لا يحتفظ بالأسماء طويلاً. بعد اعتقاله وسجنه في العراق، عاد أدراجه إلى سوريا، متوشحًا اسماً آخر: "أبو محمد الجولاني"، مقاتلاً في
حينَ يُعاد ترتيبُ الكلام...
سَيجتمعُ السادةُ العرب تحت قبابِ بغدادَ المثقلةِ بالتاريخِ والحروبِ والسلام... سَيجتمعون في قاعاتهم وفنادقهم المحروسة جيدًا ليؤكدوا لأنفسهم أنَّهم ما زالوا أحياءً...أجسادًا فقط. سيكون جدولَ أعمالِ القمةِ ُمزدحمًا بالقضايا العتيقةِ الحديثة: من اليمنِ إلى ليبيا، ومن السودانِ إلى فلسطين، وسوريا حتى كأنَّ المتابعُ لا يميزُ إن كانَ في قمةِ عامِ 2025 أم في إعادةِ بثٍّ لقمةِ 2010. وكأنَّما الزمنُ في قاموسِ العملِ العربيِّ دائرةٌ مغلقةٌ تعيدُ نفسها في مللٍ بارد... القضية الفلسطينية حاضرةٌ، بالطبع. لا تكاد تخلو منها كلمة، ولا
فقدان الأدوات = أنا مُلحد !
تمهيد: لابدَ للفردِ منّا أن يَمُرَّ بساعةٍ يَنفذ الشكُ فيها إليه وهذا محمودٌ في نفسه إذا كان الدافعُ على ذلك الرغبة في الوصول للحقيقة أو شيءٍ منها... ومن أجل الوصول لهذهِ الحقيقة ينبغي على الباحث التأكد من سلامة أدواته التي تساعدهُ في الغوص في المنظومة المعرفية للشيء الذي طلبَ حقيقته أو هل لديه أدوات على الأقل! امتلاك أدوات البحث والفهم والإستدلال هي محور النجاح في الوصول للحقيقة، فإذا واجه هذا الشاك خُلوًا من تلك الأدوات أيَ شُبهة لم يفهما تراهُ
اللَّيْل
هناك شيء غامض مُتعلّق بالليل إذ يجعل الواحدَ منّا صادقًا وواعيًا بذاته لدرجة أنه يرى أفكاره ومشاعره تتجلى أمامه... كنتُ اسلك في تفسير هذه الحالة سلوكًا علميًا تارة فأعزوهُ إلى فسلجة الجسم وما يطرأ عليها من تغيرٍ ليلًا.. وتارةً أخرى أقنعُ بتفسير المُتنبي إذ يقول: وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِن يَدٍ تُـخَبِّرُ أنَّ المـانَوِيَّـةَ تَـكْذِبُ وقاك ردى الأعداء تسري إليهمُ وزارك فيه ذو الدلالِ المحجَّبُ المانوية أصحاب ماني وهم قومٌ يقولون بالنور والظلمة، يقولون الخير كله في النور وهو الذي
شهرٌ منَ الإمتحانات
شهرٌ منَ الإمتحانات ما مرَّ هينًا، كان شهرًا مُملًا في أولهِ وأوسطه، أمّا في أواخره فقد مازجت النفسُ بين التَهَلُّلِ لإنتهائه والتوجّل من انقضاءه، نعم ما أردتهُ أن ينقضي ليسَ حُبًا للإمتحانات إذ لا يشتهي هذا أحد، إنمّا خشيةً من الفترةِ القادمة... فلهذهِ الدراسة على مرارتها فضل، إنّها جادت عليّ بسكينة السعي خلفَ معنىً واحد وهذا والله فضلٌ لو تعلمون عظيم، لا أقول إنّ السعيَّ-كل السعي -كان مُنّصبًا على الدراسة لكن لها الشطر الأعظم منه، وزاد هذا الشطر خلال شهر
فصادفَ قلبًا خاليًا فتمكنا...
يقولُ أحدهم: أَتاني هواها قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهوى فصادفَ قلبًا خاليًا فتمكنا لن أتكلم اليوم عن حب الأشخاص بل حب الأفكار... تلك التي تأتي أولًا فتُصادف مكانًا خاليًا فتتمكن... تتكمن من كل شيء كثيرًا ما نُعطي الفكرة الأولى التي تأتينا المقام الفيصل بين الأفكار فنجعلها حكمًا على ما سواها فما وافقها قَبِلنها وإلا رميناهُ عرض الجدار...وهناك من الأفكار ما نجعلهُ على خط الحياد لسبب تقاربه مع الفكرة الفيصل أو لأسبابٍ أخرى... لكن يحدث وتنهض إحدى أفكار الحياد لتثور... فيالله والثورات!
لَو صَحَّ مِنكَ الهَوى أُرشِدتَ للحِيَلِ!
يُبيّنُ لنا أبو زيدٍ محاورتهُ مع المحبوب، اذ يُعلن الأخيرُ عن عجزهِ في إيجادِ طريقةٍ يصلُ بها صاحبنا الشاعر فيُجيبُ الشاعرُ جوابًا مشوبًا بشيءٍ من عتابٍ وملامة فيقول لو كان هواكَ لنا صادقًا لما عُدمتَ السبيل في وصلنا. فأنا اليوم بعد أن أشهدَ بالصدقِ لشاعرنا في قولتهِ هذهِ أريدُ أن أنطلقَ بها إلى أبعدِ ممّا رمى إليه واعممُ -إن جاز القول- هذا المبدأ في كلِّ مشربٍ من مشاربِ حياتنا "من قصدَ غايةً لا يُعدم الوسيلة" إنما هي حواجزٌ نُشيّدُها نحنُ
الهويات القاتلة
هذا الاسم الذي اطلقهُ امين معلوف اللبناني الأصل، الفرنسي الإقامة على كتابه القيّم في باب فلسفة الانتماء... ينطلق معلوف من أساس يُقررهُ في البداية وهو لابدَّ لنا أن نركُن إلى الاقتناع بمبدأ الهويات المُركبة… والهوية تعني المُشاركة العاطفية والإحساس بالانتماء العميق لجماعة او فكرة تجمعُ جماعة…لكن اذا حدث وتلبّست الروح القَبلية احد هذهِ الهويات فهذا انحراف يؤدي الى صراعات حسب قول معلوف ثم يؤصل معلوف لقاعدة مُهمة وهي إن الهوية المُركبة هي ظاهرة سياقية وتخضع للتراتُبية، فالسياق هو الذي يُحدد
نحنُ قد نُحبُ الأزمات!
لعلّي بالغت في العنوان وفي كلمة الأزمات بالتحديد، لكن هذا الذي طرأ على بالي حين فكرّتُ في الموضوع...قد يواجهُ أحدٌ منا شدةً تُحيطُ به عفوًا مقدرّةً لهُ وهو مقدرٌ لها، لكن أرى بعضنا قد يسعى -دون وعيٍ منه- لأن يُوقعَ نفسهُ في شدة كان من السهل جدًا أن لا تقع بل من المُفترض أن لا تقع، نفعل هذا إرضاءً لتلك الرغبة الخفية في دواخلنا، نحنُ نستطيع التعامل مع هذهِ الأزمة...بل نستمتع بالتعامل معها، متعة قد لا تكون ظاهرة على معالمنا
كلب بافلوف والريلز
كلب بافلوف والريلز هذا عنوان اخترتهُ ليس على سبيل السخرية، ولا العبث، بل هو إشارة دقيقة إلى آلية خفية، تُحرّكنا كما يُحرّك الجرس لعاب كلب العالم الروسي إيفان بافلوف، في تجربتهِ الشهيرة على الاستجابة الشرطية… بافلوف اكتشف أن الكلبَ إذا ما اعتاد اقتران رنين الجرس بموعد تقديم الطعام، فإن لُعابه يبدأ بالسيلان لمُجرد سماع الجرس، حتى في غياب الطعام. إنها الاستجابة المُشروطة… لكن الكارثة اليوم أننا لسنا نتحدث عن كلب… بل عن الإنسان المعاصر أمام شاشة الهاتف، يُساق بلا وعي