لم يكن ذلك النهار كسائر الأيام.

كانت الشمس واقفةً في كبد السماء، كأنها تأبى المغيب حتى تُشرف على لحظةٍ لا تتكرر، لحظةٍ تكتب الزمان بمدادٍ جديد. وكان الناس، على جفاف الهجير ووعورة الطريق، وقوفًا حول نبيّهم، ينتظرون ما سيُقال، لا يعلمون أن الذي سيسمعونه اليوم، سيُصبح الحدّ الفاصل بين تمام الدين ونقصه، بين النور والظلمة، بين الحيرة والهداية.

هناك، في غديرٍ يُدعى "خمٍّ"، تكلّم النبي. تكلّم لا بلسانه فقط، بل بكلّ ما أوحي إليه، بما قضى به الوحيُ على مدار البعثة. رفع يد عليٍّ عليه السلام، حتى بان بياض إبطيه، ونادى بهم صوتًا لا يشوبه التردّد ولا يعتريه الخفاء:

"من كنت مولاه، فعليٌّ مولاه".

كان الإعلانُ واضحًا… لا يشبههُ في وضوحهِ شيء. لم يكن مجرد جملةٍ تُقال، بل نهايةُ خطٍّ ابتدأ منذ أن صدح جبريل في غار حراء بـ"اقرأ"، وها هو ينتهي بـ"فعليٌّ مولاه".

ما قاله النبي في الغدير لم يكن جديدًا، كان كاشفًا فقط. فالذي كان يسير معه في كلّ غزوة، والذي كان يُسدِل عليه بردته حين نام في فراشه، والذي فتح خيبر ببابٍ لا يُحرّكه أحد، والذي قال فيه: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، ما كان ليكون كلّ ذلك عبثًا. إنما كانت كل لحظةٍ من تلك المسيرة تمهيدًا ليومٍ تتكشّف فيه الحقيقة كاملة، يوم الغدير.

الذين كانوا هناك، كثيرون… لكن السامعين الحقيقيين كانوا قلة. كثيرٌ منهم سمع اللفظ، لكنهم لم يسمعوا النداء. لأن النداء لم يكن إلى آذانهم، بل إلى أعماقهم، إلى ضمائرهم، إلى نقطة الضوء التي فيهم… فمن لبّى، فقد أبصر، ومن أعرض، فقد أدار ظهره للنور.

لم يكن "عليٌّ" في خطاب الغدير رجلاً فحسب. كان الميزان، كان المِعيار، كان نقطة ارتكاز الدين بعد أن شارف على التمام. ولو لم يكن كذلك، لما نزلت الآية:

"وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته"،

وكأنّ كل ما مضى من تبليغ، وكل ما نزل من وحي، كان معلقًا على هذه اللحظة بالذات.

ثمّة أمرٌ عظيم كان يُدبَّر من السماء.

وكان لا بد أن يُقال بوضوح: أنّ طاعة الله لا تُنال إلا عبر طاعة نبيه، وطاعة النبي لا تكتمل إلا بطاعة علي.

ومن هنا كانت تلك العبارة الثقيلة العميقة:

"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع عليًّا فقد أطاعني، ومن عصى عليًّا فقد عصاني".

تُرى، هل يُمكن أن يربط الله طاعته بشخصٍ غير معصوم؟!

وهل يغرينا الرحمنُ بطاعة من قد يُخطئ؟

أم هل يُحاسبنا على مخالفة رجلٍ قد يغفل أو ينسى؟

كلا…

لذلك، لم يكن إعلان الولاية مجرّد اصطفاءٍ سياسيّ، بل كان كشفًا عن مقامٍ ربّانيٍّ عظيم، عن عصمةٍ لا ينفذ إليها الشك، عن نورٍ واحدٍ انشعب بين محمد وعلي.

في ذلك اليوم، فهم من فهم… وغفل من غفل…

لكنّ التاريخ لم ينسَ، والسرد لم يغفل. لأنّ عليًّا لم يكن عابرًا، بل كان هو المسير...

هكذا اكتمل الدين.

هكذا تمّت النعمة.

هكذا رُضيَ الإسلام، لأنّ فيه ولايةً لا غشّ فيها، وقيادةً لا هوى يعتريها.

ومن لا يرى الغدير نورًا، فقد اختار العمى،

ومن لا يسمع صدى النداء في "من كنت مولاه"،

فقد أغلق قلبه دون الحق،

وغاب عن اللحظة التي ابتدأ فيها الزمان من جديد....