لن يكون هذا المحرَّم كسابقيه، ولن يمرّ كرقمٍ عابرٍ في تقويمٍ تبلّدهُ العادةُ وتُخدّرهُ الطقوس. لقد جاء مختلفًا، مهيبًا، كما لو أنّ الزمن ذاتهُ قد انتفض من غفلته، وكأنّ الحسين عليه السلام نادى من لُجَّة التاريخ: " آن أوانُ المبدأ أن يُمتحَن!"
ما كنتُ ممن تستهويهم المواقف العاطفية، لكن شيئًا في هذا المحرّم مختلف، شيء يجعل الوجدان ينتفض لا طوعًا لعاطفة، بل طاعةً لنداء مبدئيٍّ خالص، لا يشوبه ولاء لأسماء ولا انتماء لرايات، بل انقيادٌ نقيٌّ لفكرةٍ انطلقت من كربلاء، وما انطفأت...
اليوم، وأنا أرقبُ هذا الشرقَ المكلوم وهو يشتعل بنار الحرب بين إيران و"والكيان اللقيط"، لا أرى في اشتباك الدول وحسابات الساسة ما يستهويني، ولا في زهو القادة ما يستدرُّ انحيازي. لا شأن لي بمن أطلق الرصاص، ولا بمن قرع طبول الحرب، فكل أولئك عابرون. إنما وقوفي، إن كان لي أن أقف، فهو مع المبدأ حين يتجسّد، مع الفكرة حين تتجرّد، مع "هيهات منّا الذلّة" حين لا تُقال على المنابر، بل تُكتب بالنار.
لقد ظللنا نردّد منذ عقود: "كلّ يومٍ عاشوراء، وكلّ أرضٍ كربلاء"، حتى خشيت أن تُستهلك العبارة وتذبُل، فإذا بالزمن يُعيد لها معناها، فإذا بلهيب المعركة يُحيي رماد الشعارات، فإذا بالدم يُفسّر ما عجز عنه الكلام...
ها هي الشعارات الحسينية تُبعث في ساحة الواقع، لا ترفًا دينيًّا ولا مظهرًا تراثيًّا، بل فعلاً وجوديًّا يستنطق الأرض، ويصوغ جغرافيا جديدة لكرامة الإنسان. ها هو الدم يُقال على حقيقته، لا في المجالس، بل في المتاريس.
ولستُ ممن يسكرون بجَلَبة السلاح، ولا ممّن يرون البطولة في صوت المدافع، غير أنني أوقن بأن ثمّة لحظات في التاريخ يلتقي فيها المبدأ مع الفعل...
فليكن هذا المحرَّم شاهدًا، لا على الحزن فحسب، بل على الحياة حين تستردّ جدّيتها، وعلى التاريخ حين يتقدّم ليُعلّم الحاضر معنى الكرامة.
يا لهذا الشهر الجليل، كم مرةٍ مررتَ علينا فلم نُحسن فهمك؟!
كم مرةٍ بكيناك دون أن نحيا بك؟
كم مرةٍ ندبناك، ولم ننتصر لمظلومٍ باسمك؟
لكنّك اليوم تعود لا حزينًا، بل صارخًا، لا ناعيًا، بل ناهضًا، تضع الحسين في ساحة المعادلة، لا في زوايا الرثاء.
ولعلّ كربلاء كانت، منذ البدء، نداءً ينتظرُ من يسمعهُ… لا من يردّده.