يُقال في الموروث العربي: "للرجل وجهٌ واحد واسمٌ واحد".
لكن السياسة — كعادتها — تُكذّب الأمثال.
بعد 2003، تحت الاحتلال الأمريكي للعراق، عبر شابٌ سوري الحدود حاملًا اسمًا مزوّر: "أمجد مظفر حسين"، كانَ يحملُ عقيدةً تُقسم العالم إلى "مجاهدين" و"كفّار". انتمى إلى تنظيم القاعدة العراق، وفي مخيّلاته معركة مقدسة، لا تعرف رماديات المصالح ولا تعترف بمنطق الدول...
لكن التاريخ لا يحتفظ بالأسماء طويلاً.
بعد اعتقاله وسجنه في العراق، عاد أدراجه إلى سوريا، متوشحًا اسماً آخر: "أبو محمد الجولاني"، مقاتلاً في صفوف "جبهة النصرة". وحين تبدّلت الولاءات صار "قياديًا في داعش"، يرفع راية الخلافة فوق جغرافيا مُشتعلة.
كأنما كان لكل مرحلة اسمها الخاص، وعقيدتها المؤقتة.
ثم جاءت اللحظة الكبرى:
حين سقط نظام بشار الأسد، خرج الرجل إلى العالم باسم جديد: "أحمد الشرع"، هذه المرة بصفة "رئيس الجمهورية العربية السورية"، يجالس الملوك والرؤساء، ويتحدّث بلغة الاعتدال، محاطًا بفرق البروتوكول والدبلوماسية، حتى انتهى به المطاف في الرياض، يصافح دونالد ترامب، ذاك العدو القديم الذي قاتله في أزقة الفلوجة والموصل.
إن من يتتبع مسيرة الجولاني سيدرك أن الثابت الوحيد في مشهده هو "تبدل القناع"
في العراق، هو "مجاهد ضد الاحتلال".
في سوريا، هو "ثائر ضد الطغيان".
في المشهد الدولي، هو "رئيس توافقي" ينسج التحالفات مع نفس القوى التي كان يطلق عليها نار التكفير.
الهوية في عالم الجولاني لم تكن يومًا جوهرًا أصيلاً، بل وظيفة تتبدّل.
كما وصف زيجمونت باومان:
"الهويات في العالم السائل ليست انتماءً ثابتًا، بل بطاقة عبور مرنة بين مصالح متضاربة."
مكيافيللي يبتسم...
لعلّ نيكولو مكيافيللي كان سيقف احترامًا لهذا النموذج فهو القائل:
"الحاكم الناجح هو من يُجيد التلوّن دون أن يُفضَح."
ولأن السياسة عنده ليست ساحة أخلاق بل ميدانًا للبراجماتية العارية، فإن الجولاني- بتبديل أسمائه وأقنعته- لم يكن سوى التلميذ النجيب لهذا الإرث.
حين يصافح الجولاني خصوم الأمس، لا تفهموا المشهد كخيانة لماضٍ نقي، بل كدرس صارخ في أن السياسة لا تعترف بنقاءٍ أصلاً.
التعليقات