أنا الآن في مرحلة لا تُحتمل، بين نار الهروب ونار المواجهة. وُلدتُ في الريف، في مجتمعٍ ضيق وصعب، مجتمعٍ لا يُشبهني رغم أنني أنتمي إليه شكلاً، لكنّ فكري وقلبـي كانا دومًا في مكان آخر. لم أفهم يومًا لماذا أنا مختلفة، ولماذا كل ما يفرحهم يؤذيني، وكل ما يسعدهم يجرحني. كنتُ أرى أقراني يسيرون في طريقٍ عادي، بينما كنتُ أنا أحمل في داخلي فكرًا آخر وروحًا أخرى.

أذاني هذا المكان منذ اللحظة الأولى التي خرجتُ فيها إلى الدنيا. أذَتني العائلة التي كان يفترض أن تكون سندًا، لكنها كانت وما زالت مصدرًا للخذلان. يكادون يفرحون حين نقع في المصائب، ويتهلّلون إذا أصابنا الأذى، وكأنّ سعادتهم الوحيدة أن نُهان أو ننكسر. لم أعرف يومًا كيف يبدو يومٌ عادي، بلا مشاكل ولا وجع، بل عرفتُ منذ طفولتي أنّ نصيبي هو أن أُصارع وأحارب لأتنفّس.

وحاليًا أبي يواجه مشكلة كبيرة في عمله، ولم يكتفِ الناس بالتفرّج، بل أظهروا الشماتة في عيونهم بلا خجل. حينها أدركت أنّ القلوب من حولنا أقسى من الحجر. شعرتُ أنني لم أعد أحتمل. أرهقتني المواجهة، استنزفتني المعارك اليومية مع الناس ومع نفسي. تعبت من أن أظلّ واقفة في وسط هذا المستنقع الذي يبتلعني كل يوم أكثر.

قد يظنّ البعض أنني أبالغ، أنني مراهقة لا تفهم الحياة بعد، وأنني سأندم يومًا ما على ما أقوله الآن. لكنهم لا يعرفون أنني نادمة بالفعل، نادمة لأني استسلمتُ طويلًا للبقاء في مكان يزرع داخلي كل القبح ويُخرج مني أسوأ ما فيّ.

والآن لم يتبقَّ سوى أسبوعين وأدخل الجامعة. أمنيتي أن تكون بعيدة، أن أتنفّس هواءً جديدًا لا يشبه هواء القرية الثقيلة. أعرف أن أهلي سيعترضون، لكن قلبي يتمسّك بالبعد كأنه طوق نجاة. أحيانًا أكتب هذا الكلام كل يوم ثم أمسحه، وأحيانًا أتركه يخرج كما هو، مبعثرًا ومختلطًا، لكنه صادق.

أنا لا أطلب حلولًا، ولا أبحث عن أعذار. أريد فقط أن أقول إنني أريد أن أمشي. أريد أن أبدأ حياةً جديدة، حتى لو كانت أصعب من القديمة، لكنها على الأقل لن تُوجعني بنفس الطريقة. لن تضربني كل لحظة بوجهٍ مألوف يذكّرني بكل ما تحمّلته.

لقد تعبت… تعبت من أن أشرح، تعبت من أن أواجه، وتعبت من أن أعيش محاطةً بوجوه لا تفهمني ولا تريد أن تفهم. ربما الهروب في هذه المرة ليس ضعفًا… ربما يكون الهروب هو عين الشجاعة.