نعيش في عصر لم يعرفه البشر من قبل، عصر "الإتاحة". كل شيء صار قريبًا إلى حدٍ يثير القلق: بضغطة زر تستطيع أن تبلغ أقصى العلم أو أقصى الفتنة. يمكنك أن تقرأ أعظم كتب التراث في دقائق، وبالسهولة نفسها يمكنك أن تغرق في وحل الرذيلة.
الإشكال هنا ليس في وجود الخير أو الشر، بل في كونهما صارَا متاحَين بالقدر ذاته، بلا حواجز ولا مشقة. فما الذي يحدث للشباب إذن؟ أي طريق سيختارون حين يُعرض عليهم كل شيء؟
لقد تغيّر ميزان الفتنة تمامًا. كان النظر قديمًا يحتاج إلى مشقة، أما اليوم فتكفي إشارة باليد. كان البحث عن شهوة محرمّة يكلّف تعبًا، أما اليوم فهو مجاني، عابر، وسريع. حتى صار الامتحان أشدَّ من أن يوصف.
قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف:7]. أليست الإتاحة اليوم صورة من هذه الزينة التي تُبهر الأبصار وتستدرج النفوس؟
إننا أمام مشهدٍ عجيب: العلم والدين والفضيلة متاحون كما لم يكونوا من قبل، لكن الفجور واللهو والفساد متاحون كذلك. أليس هذا تناقضًا مربكًا؟
النبي ﷺ قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت» [رواه البخاري]. واليوم صار الاستحياء نفسه عملة نادرة، بعدما سهّلت الإتاحة سقوط الأقنعة.
فهل هذه الإتاحة رحمة لأننا نستطيع أن نبلغ الخير بيسر؟ أم نقمة لأنها جعلت الشر يدخل بيوتنا بلا استئذان؟
وهل المسؤولية تقع على الفرد وحده ليقاوم، أم أن المجتمع كله مسؤول عن ضبط هذه الإتاحة؟
وهل يمكن أصلًا أن نسمّي ما نعيشه "حرية"، أم أنه نوع جديد من الاستعباد للشهوة؟
الإتاحة إذن ليست مجرد واقع تقني، بل سؤال وجودي يلاحقنا جميعًا: هل صرنا أضعف لأن الشر صار قريبًا؟ أم صرنا أقوى لأن الخير كذلك صار في متناول اليد؟
التعليقات