من المؤسف أن يتحوّل النقد — الذي وُجد ليضيء — إلى أداة للظلال.

فبدل أن يكون جسرًا بين الفكرة ومتلقيها، أصبح عند كثيرين سلاحًا يُشهر في وجه المبدع قبل أن يُفهم نصّه. هكذا انقلبت رسالة النقد من فنّ التحليل إلى لذّة التقويض، وكأن الناقد لا يجد قيمته إلا إذا هدم ما بناه غيره.

لقد فقد النقد العربي في كثير من منابره جوهره: الإنصات قبل إصدار الحكم.

فكأن بعض النقاد يتعاملون مع النصوص كما يتعامل المحقّق مع المتّهم، يبحث عن التهمة قبل أن يقرأ البراءة. ينسى هؤلاء أن النقد في أصله موقف معرفي، لا موقف انفعالي، وأن التحليل هو غايته النبيلة التي تفتح الوعي، لا الإدانة التي تغلقه.

ولعلّ هذا الميل إلى الهجوم له جذور في بيئتنا الثقافية نفسها؛ حيث يختلط الرأي بالشخص، والموقف بالفرد، فيغدو الخلاف الفكري خصومة شخصية. فيتحوّل النقد إلى مبارزة ego لا محاورة فكر، ويتقدّم الشعور بالرغبة في الانتصار على الرغبة في الفهم. عندها يفقد النقد نُبله، ويتحوّل إلى منبر للشحن والضغينة، لا إلى مساحة لتوسيع الإدراك.

لقد عرفنا في تراثنا نقّادًا حقيقيين، أمثال الجاحظ وابن طباطبا وابن خلدون، مارسوا النقد بوصفه قراءة في العمق، لا إطلاق أحكام من فوق. كانوا يُحلّلون الظاهرة قبل أن يُدينوا صاحبها، ويميزون بين “الفكرة” و”صاحب الفكرة”، بين “الأسلوب” و”الكاتب”. أما اليوم، فكثير من النقد الثقافي بات يُكتب بمداد الغضب لا بالحبر، فاختلطت الذات بالموضوع، والعاطفة بالتحليل، والخصومة بالرأي.

إن الهجوم في النقد، حين يخرج عن سياق الموضوعية، لا يجرح المبدع فقط، بل يُصيب الوعي الجمعي بالبلادة. لأنه يُربّي القارئ على ثقافة الرفض لا ثقافة الفهم. أما غياب التحليل، فهو ما يجعل الناقد يبدو كمن يفرّغ شحنة شخصية لا موقفًا فكريًا، وكأن النصّ مجرد ذريعة لتصفية حساب غير معلن.

لقد آن لنا أن نعيد للنقد مكانته بوصفه “حوارًا معرفيًا”، لا “معركة استعراضية”.

أن يكون الناقد عينًا ترى أكثر مما تهاجم، وعقلًا يفتح الأفق لا يُغلقه.

فالنقد الحقيقي لا يصرخ، بل يُفكّر. ولا يهدم، بل يُعيد البناء على أسسٍ أوضح وأعمق.

🔹 نافذة للقارئ:

هل ترى أن مشهد النقد الثقافي اليوم يحتاج إلى ثورة في أسلوبه، أم في نوايا من يمارسونه؟

وهل يمكن أن يعود النقد العربي إلى جوهره التحليلي بعد أن تلوث طويلاً بعواطف الخصومة؟