ما أخطر أن نختصر حياة إنسان في عنوان، أو نُلصق به صفة لا تليق به… فالقوالب تُريح تفكير المُعلِب، لكنها تظلم القلوب المُعلبة .

في مشهدٍ يتكرر بصيغ مختلفة، سأل طفل أباه يوماً: "يا أبي، لماذا يقول الناس عن جارنا الجديد إنه سيء؟

فرد الأب بثقة العارف: لأنه من منطقة عُرفت بالمشاكل.

سأل الطفل ببراءته الفطرية: وهل قابلتَه لتعرف إن كان سيئاً حقاً؟.

هذا السؤال الطفولي يضرب في عمق مأساتنا الاجتماعية؛ إنه يكشف الستار عن داءٍ فكري خفي نطلق عليه التعليب الاجتماعي.

إنه تلك العملية القاسية التي نختزل فيها تعقيد النفس البشرية وثرائها في "علبة" صغيرة أو "قالب" جامد، نلصق عليه حكماً مسبقاً، ثم نتعامل مع الإنسان بناءً على الملصق لا بناءً على الحقائق والمتغيرات، بل يصبح سجناً للبعض عن التغيير أو التحسن أو الشفاء.

وهم القالب الواحد

التعليب الاجتماعي هو أن يُحكَم على الأشخاص من خلال قوالب مسبقة الصنع، تُبنى على الجغرافيا، أو العائلة، أو المظهر، أو حتى زلة قديمة.

والمفارقة الكبرى تكمن في محاولة اختزال شعوب ودول أو قبائل بأكملها في صفة واحدة.

قد تجد ثقافة كاملة تُختصر في "الكرم" أو "البخل" أو "الحدة"، متجاهلين أن بداخل هذه المجموعات تكمن أقدار الله في عبادة وحكمته ورحمته وقوته وعحائب خلقه.

فمن مجتمعات جحدت بأكملها وجود الله ظهر أنبياء ورسل يدعون لتوحيد الله، وفي بيوت أنبياء ورسل يدعون لتوحيد الله كان هناك من يشرك بالله.

لذلك نجد إن هذا الاختزال هو "مستحيل واقعيًا"، إلا أنه يتم ممارسته يوميًا ببراعة مخيفة؛ فنُعامل دولة فقيرة ومسالمه مسلمه بصفات وعناوين تعمق مأساتها وتصادر حقوقها، وتعامل أطيب الناس بجريرة أسوأهم، وقد نمنح الثقة لمن لا يستحقها لمجرد أنه ينتمي لفئة "مُعلبة" بالنزاهة.

ضحايا التصنيف الجائر

لا يقتصر ضحايا هذا الداء على فئة معينة، بل يطال الجميع في دوائر لا تنتهي من الظلم الاجتماعي:

الدول: هناك الكثير من الدول المحلية تئن تحت وطأة تصنيفات دولية جائرة تحرمها من أبسط مقومات التعافي والاستجابة الفعالة.

المظلوم بتاريخ الولادة: ذلك الشخص النبيل الذي ينتمي لمنطقة أو عائلة وصمت أو ظلمت بوصفها بصفة سلبية.

ثم يجد نفسه مطالباً ببذل "جهد مضاعف" طوال حياته؛ جهد ليعيش حياته، وجهد أكبر لينفي عن نفسه وعن مجتمعه واقع التعليب المُر.

الأذكياء والمتميزون والموهوبون: نعم، حتى النعمة قد تتحول إلى نقمة في مجتمع التعليب.

فالرجل الفذ، الذكي، أو "الشاطر"، قد يُعلب في خانة "المكار" أو "يمدح بقدر لا يحتمله ولا يحتمل التعامل معه، فتفتش الناس حياته بحثاً عن المواقف أو الحركات أو حتى الهمسات التي يكمن فيها ما وُصف به، أو عن توهمات تنشأ في أذهانهم لا يعرف عنها.

بدلاً من الاستفادة من طبيعة واقعه، وحدود إمكانياته.

يُحاصر بأفكار لم يبلغها، أو صفات لا يردكها، وتُوأد طاقته خوفاً من المجهول، أو عندما نفضل القوالب المألوفة على النوابغ المختلفين.

المخطأ في علبة: ذلك الذي أخطأ مرة خطأ كرهه قبل غيره .

لكن ثقافة التعليب تنتهك على الناس حياتهم بذاكرتها الانتقائية، لتحبسهم في "المعلبات الماضية، التي دون عليها مكونات انتقائية".

فيُحرم من فرص الحياة الكريمة، وأهمها أن يعيش مبادئ نبيلة، أو ينطلق بناءً بأخلاق كريمة، وربماوط دُفع دفعاً للعودة إلى ما هو أسوء من مربعه الأول، وكأننا نقول له: "لا مكان للتغيير هنا"، ولن تكذبنا في ظننا السيء أو أوهامنا العامرة، تذوق قيودنا الفكريه.

لماذا نمارس "التعليب"؟

إن جذور هذه الظاهرة تعود لجهل واسع وكسل وخوف:

الكسل المعرفي: من الأسهل للعقل الكسول أن يضع الناس في صناديق جاهزة بدلاً من تكبد عناء البحث، الفهم، التغيير، النصح، والتعامل مع الناس من منطلق المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية.

الخوف والجهل: نحن نخشى المختلف، لذا نسارع لتعليبه لنشعر بالأمان الزائف غير المستقر.

وفي المجتمعات التي تخشى التقدم، يُنظر لكل موهبة خارجة عن "المألوف" بعين الريبة، وهذا ما تضمنته سِير المصلحين والعلماء الأوائل.

الجمود عند حدود ما ألفناه والعجز عن بذل المستطاع، وغياب التواصل الفعّال للتعاون وإحداث التغيير مع فهم الواقع بمرونة تواكب متغيراته الزمنية والثقافية.

الخسارة الكبرى

التعليب الفكري ليس مجرد تصنيف؛ إنه معول هدم يضرب عمق المجتمع ويُسقط هيبة رموزه.

نحن لا ندمر الأفراد فحسب، بل:

  • نهدر الطاقات: كم من طبيب، معلم، أو مفكر فذ خسرناه لأننا حكمنا على "غلافه" وتركنا "جوهره"؟
  • نشوه العلاقات: تتحول العلاقات الإنسانية من تراحم وتعارف إلى "تحرز" و"تربص".
  • نقتل التنوع: بدلاً من أن يكون الاختلاف مصدر غنى وقوة، يتحول إلى سبب للفرقة والانعزال.

نظرة الإنصاف لا التصنيف

دعونا نتوقف جميعاً عن استهلاك الأحكام الجاهزة التي تفرضها ثقافة 'التعليب'؛ ولنفتح 'علب' التصنيفات التي تضعها الدول والمجتمعات والثقافات على بعضها البعض، لاكتشاف الحياة الحقيقية بداخلها، وإعادة قراءة واقعنا بعيون الحاضر ونستفيد من خبرة وتجارب الماضي.

إن الخروج من هذا المأزق الخطير يتطلب شجاعة أخلاقية ووعياً فردياً قبل أن يكون جماعياً.

الحل يبدأ حين تدرك أن "الناس معادن، وليسوا قوالب.

في الختام،نحن مدعوون لرمي أغلفة الأحكام الجاهزة جانباً.

لنتحرر من الأوهام المتعلقة بالمنطقة أو الاسم أو الملبس، ولنمتلك الشجاعة ألا نستعجل؛ فمن واجبنا الأخلاقي المشترك أن نرى الجوهر لا الملصق، وأن ندرك أن إنسانية أي أمه أو مجتمع أو فرد هي أعمق بكثير من القوالب التي وُضِعوا فيها.

لنرى السلوك الواقع قبل القالب الجاهز، وتعامل مع الحاضر لا الماضي، ليجد الناس فرصهم وإمكانية نموهم مع بعضهم.

حينها فقط، ستكتشف كنوزاً بشرية كانت مدفونة تحت ركام الأحكام المسبقة، وستدرك أن الله خلقنا شعوباً وقبائل "لنتعارف" لا "لنتصنف".