في حياتي الشخصية كثيرون ممن أجدهم يتعاملون مع الغرباء معاملة تختلف تمامًا مع أهل بيتهم مثلًا، الواحد منهم بمجرد دخوله إلى بيته يبدو وكأنه تلبّسه شخص آخر.. شخصية مختلفة! كان هادئًا، فصار عصبيًا، أو كان يمزح؛ وصار جادًا فجأة!

من منظور طبي نفسي، يبدو التعامل بلطف زائد مع الغرباء، مقابل الجفاء مع المقربين، ظاهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأنماط عمل الدماغ والجهاز العصبي العاطفي. في علاقاتنا القريبة، حيث مستويات الأمان العاطفي مرتفعة، يقل نشاط مناطق الضبط العاطفي في القشرة الجبهية الأمامية، فنصبح أكثر ميلاً لإظهار المشاعر كما هي، بلا تجميل ولا تصنّع. بمعنى آخر، في محيط الأحبة نسمح للذات الخام بالخروج دون أقنعة، لأن العقل الباطن يدرك أننا "مقبولون" مهما كانت انفعالاتنا حادة أو جارحة. أما مع الغرباء، فالعقل يدخل في حالة تأهب اجتماعي، منشّطًا مسارات ضبط السلوك والانفعال خوفًا من الرفض أو فقدان الصورة الاجتماعية، فنبدو ألطف وأكثر مراعاة، حتى لو كان ذلك على حساب الصدق العاطفي.

ومع أن هذه الآلية طبيعية من وجهة نظر عصبية، فهي تحمل في طياتها خطرًا نفسيًا طويل الأمد: تحويل العلاقة مع الأحباب إلى ساحة لتفريغ الضغوط والانفعالات السلبية. بمرور الوقت، تبدأ هذه القسوة غير المقصودة في تآكل روابط المحبة والثقة، مما قد يؤدي إلى فتور عاطفي يصعب ترميمه. وهنا يبرز تساؤل عميق: لماذا نغفر للغرباء زلاتهم بدافع اللباقة، ثم نجلد أحبّتنا بأقسى أدوات الصراحة بحجة أنهم يعرفون مقدار محبتنا لهم؟