كانت ليلةٌ تنوءُ بسكونِها،لا يخرقها سوى أنفاسِ اللّيلِ الثقيلة،خرجنا فيها لنتنشَّقَ طراوةَ الهواءِ ونشتري بعض حاجياتِ المنزلِ.
الطرقات تغتسلُ بضياء أعمدةِ الإنارة الخافتة، تلمعُ كنجومٍ تهاوت أرضًا.
مدينتُنا لا تنام ومع هذا كان ظلامُ ذلك الشارع يوحي بأنَّه في غيبوبةٍ أبديةٍ.
قبل أن نصلَ إلى المنزل ظهرت أمامنا فتاةٌ في مطلعِ العشرينات، وحيدةٌ كأنها انبثقتْ من العتمة،من اللاشيء.
كنتُ أولَ من فطَنَ لخيالها. أوقفنا السيارة جانبًا، و بدأتْ برجمِ ألفِ سؤالٍ في لحظة: «أين أنا؟ وكيف يؤدي هذا الطريقُ إلى المكانِ الفلاني؟»
استغربنا جميعًا من أسئلتها تلك؛ كان ضربًا من الغرابة أن نصادف فتاةً في شارعٍ مقطوعٍ، بيتُها بعيد،وفي وقتٍ متأخر، وكما تقولُ روايتها فقد كانت تمشي منذ المغرب، فكيف وصلتْ إلينا؟
حكايةٌ مشوّشةٌ لا يكتمل منها سوى قلقٍ مبهم.
استغرقنا عشر دقائق بالضبط نستجوبها، كأنها وقعت في قبضةِ محكمةِ العدلِ الدولية. لكني كنتُ الوحيدةَ التي أصدقها بغضِ النظرِ عن تداخلِ رواياتها. نقرتُ كتفَ أختي التي كانت تقود السيارة، وبلمحِ طرفٍ أخبرتها أن تصطحبها معنا؛ ففي النهايةِ هي فتاةٌ مثلنا ووحيدةٌ في منطقةٍ نائيةٍ، ولم أظنّ أن في ذلك مجازفةً أو مساءلةً. فالإعانةُ غريزةٌ في كل إنسان — أو على الأقل هذا ما أؤمنُ بهُ شخصيًّا.
كانت رواية تلك الفتاة مربكة،فيها ما يكفي لزرعِ الريبة، وفيها ما يكفي لإيقاظِ الشفقة.
وبعد سفرٍ من الأجوبة اللامنطقية،قررنا أن نقطع ليلَنا بسلام حتى نوصلها إلى مأمنها.
في الطريقِ حاولنا أن نفهم: إذا كان مشوارُها المسائي في مكانٍ آخرٍ، ومنزلها أقربُ إلى ذلك المكان، فكيف وصلتْ إلى هنا بهذه السرعة؟ وأين أهلُها؟ علمًا بأنها منعتنا من الاتصالِ بهم.ما زاد هواجسَنا أنها لم تكن معها نقودٌ ولا حتى رصيد لإجراء مكالمةِ استغاثة لأي قريب.
واصلتْ حديثها،وظَهَرَ أنها مريضةٌ بالسكري،وتعرضت أثناء مشيّها لغيبوبةِ سكري فنُقلت إلى المستشفى
وحُقِنت بمحلولٍ وريديٍّ،ثم عادت إلى وعيِها، واستأنفتْ مسيرها حتى وصلت إلى الشارعِ الذي وجدناه فيه ، لا شيء منطقيّ في كلامها،بل كلما تحدّثت زادَ شكنا ناحيتها أكثر فأكثر،لكن أمرًا واحدًا كنا متأكدين منه وهو أنها بحاجةٍ فعليةٍ للوصول إلى منزلها.
وهذا ما قمنا به بغض النظر عن شخصِها أو قصة حياتها.
حين عدنا إلى بيتنا،واجهتنا والدتي بصرامةٍ تقشعُ الحِجاب عن البصيرةِ، وعاتبتنا على ذلك "المعروف"
وانهالتْ علينا بكميةٍ مرعبةٍ من الاحتمالات:
«لو أنها كانت تحمل رشاشًا مخدرًا؟»
«لو أنها لَفَّقت عليكم تهمةَ الخطفِ أو حيازةَ الممنوعات؟»
و مع كل إحتمال أسمعهُ ترتجُّ عقيدة الخير التي بداخلي،
شيءٌ يهزّها بقوةٍ ، لم يكن كلام أمي هو السبب
بل إدراكي أن الحذر في أحيانٍ كثيرةٍ يصيرُ سيفًا يقطعُ أوتار الرحمة وأن الخير قد يكون محض تهمة و شكْ.
وطالما أننا لا نمتلك كافة الأدلة والمعلومات، فلا نستطيع المجازفة بذلك الخير مهما كان نبيلًا و شريفًا.
تأملتُ الليلَ مجددًا، وأدركتُ أن العالم تغيّر ، الناسُ يخافون من يدٍ تمتدُ لطلب العون، خشيةَ أن تكون خنجراً في غمد الرحمة.و مع ذلك،بقي في داخلي يقين: أن الخير، مهما شوَّهتهُ المخاوف، سيبقى طريقًا لن نضلَّ فيه أبدًا؛ فمن خادعنا اليوم، لن يفلت من عدلِ الله غدًا.
التعليقات