أحبُّ الجلوس إلى الكبار والاصغاء لهم، أكثر رحلاتي للمستشفى لا تنتهي بأخذ التاريخ المرضي من المريض فقط، وإنّما الاستماع إلى ما يبّثنيه من تجارب حياته، خطأ يُحذّرنا منه الأستاذة في أوِّل حصّة من التدريب السريري، لكنّ أساتذتي مُعلّمون، والمرضى مُعلّمون أيضًا.

ألاحظ أحيانًا مُرافق المريض، ذلك الرجل الكبير الذي يسير بعزمة بين غُرفات التحاليل، طالبًا هذا الفحص ومُسلّمًا ورقة ذلك التحليل، يريدُ شفاء ابنه، أنتبه لهذه الأمور عادة عندما أكون قد تخلّيتُ عن تركيزي، وأريد من المُحاضرة أن تنتهي.

في هذه اللحظات، يزداد تأثير ما يفعله ذلك العجوز، الذي يسير بخطى حثيثة لاجراء تحاليل ابنه، يزداد ويعظمُ تأثير ما يفعل في نفسي، أقول لنفسي: كهل يُشارف على الستِّين، له همّة أكثر من شباب العشرين! وشاب العشرين تراه يتململ من المحاضرة لأنّها تعدَّت العاشرة صباحًا، وقد أكثر من السهر يوم أمس.

كهل عجوز نبّهني يومئذ إلى شيء، وهو أنِّي أحتاج أن أعتني بمستوى طاقتي، وأحميها من أن تتبعثر بشكل غير موزون على مدار اليوم.

لم أعد مُراهقًا، أنا رجل، وأحتاج أن أكون مُستعدًا لما تلقيه عليَّ الحياة فجأة، أكان ضيفًا عليَّ تبادل الحديث معه، أو طارئ يشقُّ على النفوس.

لا أريدُ لنفسي أن تكون مُنهكة عند العاشرة صباحًا، مُتململة من الحياة، لا يُقبس منها شغفٌ ولا ذرّة نار، مصيبة أن يبدأ شابٌ في العشرين يومه مُنهكًا!

عندما تتفحّص ذلك الكهل، قد لا يكون غريبًا أن ترى هاتفًا عاديًا، بأزرار ونغمة بيانو ترنُّ من جيبه، هاتفٌ لا يعرف منصّات التواصل ولا مقاطع الفيديو، بل لا تصله ريحُ الانترنت.

أيكون هذا السبب؟ وإلّا فما يكون الفرق؟ لا أظنٌّ طعامه أفضل منِّي، ولا فقراته أشدَّ وأصلَب، ولا أظنّه قد نامَ ليلته مثلي، هو خشية على ولده، وأنا غرِقًا في بحر الدوبامين.

وقد يكون همُّه على ابنه، وشعوره بأنّه المُعيل، قد بعث فيه طاقةً، وهذا صحيح فعلًا، لكنِّي كنتُ بمثل هذه المواقف سابقًا، وكنتُ مُعيلًا وقد أعلتُ من كان بذمَّتي، لكن لا أظنُّ أن خطوي كان أسرعَ منه، ولا همِّتي تقاربُ همّته، ولا أظنّه كان يرتشفُ جُرعات من هاتفه المحمول في كلِّ لحظة يسمحُ بها الموقف، ولا أظنُّ أنّ استراحات الخمس دقائق عنده تطولُ لنصف ساعة بسبب ما يجده من خبر ينبثق من هاتفه.

الهاتف، الانترنت، التواصل الاجتماعي والدوبامين. هذا هو الفرق بيني وبين الشيخ. أتخيَّل أنِّي لو لم أنظِّم استخدامي لهذه الأدوات، سأكون بعمر يطلبُ منِّي ولدي خروجًا إلى مكانٍ وفُسحة، وبدلًا من أن أقولَ له" هيّا! إليها!" سأقول له: "ليس اليوم، لستُ بمزاج جيّد" ثمَّ أعود لتصفِّح خبر المفاوضات الروسية الأوكرانية، إيه نعم لن تنتهي مشاكلهم حتّى ذلك الحين!

كلّنا نعرف أنَّ ما يقوله دجّال التنمية البشرية، بخصوص أنّك تستخدم 10% من دماغك، هو هراء محض، لكنِّي أظنُّ أنَّ ما يقوله صحيح، إن أضاف إلى فكرته بعضَ التفخيم والترخيم. فلو شغلتك أنهار الدوبامين الآسنة، لن يبقَ في عقلك مُتسعًا لغيرها من الأمور المُملة، ولم أعهد الحياةَ تتفتَّح على من يُراهن في تقدّمه ونموّه على الأمور المُمتعة فقط!