بسم الله الرحمنِ الرحيم

في ظلِّ هذه الحياة المتسارعة، ينبغي على الإنسان أن ينسحب منها قليلا، أن يأخذ استراحة ليُعيد ترتيب أوراقه، ويبدأ بداية جديدة. والحاجة لهذا الاعتزال تكونُ مُضاعفة كلما زادت مشاغل الإنسان.

شاهدتُ مقطعًا يَصِفُ تجربة الإنقطاع عن الدوبامين، الهرمون المسؤول عن الرغبة. والهدف من هذهِ التجرُبة تجنُّب أي محفزات ممتعة أو مثيرة من أجل إعادة معايرة دائرة المكافأة في الدماغ. أي الانقطاع عن كل ما يفرز نشوة وسعادة، مثل برامج التواصل الاجتماعي، والألعاب الالكترونية، والمأكولات الشهيّة، والمواد الإباحية، وحتى القراءة، باختصار: الانقطاع عن كل ما يمكن أن يؤدي إلى إطلاق هذا الناقل العصبي.

تجارب الصيام عمومًا ليست سوى محاولة انقطاع، لذا سأضمِّن مكتسباتي من هذه التجربة، خاطرة انقدحت بذهني، فكرة، أو تأمُّل.

لم أطبِّق صوم الدوبامين كما هو بالحرف، بل أجريتُ تعديلات تناسب الهدف الذي أنشُدُه، القراءة مسموحة، الرياضة لو لم أكن مصابا لسمحت بها. من التعديلات أيضًا زيادة مدة الصوم من يوم واحد إلى أسبوع، والصوم صيامًا شرعيًا بدلا من السماح بالماء بكُّل وقت وحظر الطعام.

الغايات الكبرى التي جعلتها نصبَ عيني: ضبطُ النوم، بتحديد موعد استيقاظٍ وموعد للنوم، وهذا من أظهر أسباب النجاح عموما من وجهة نظري، ثانيًا: ضبط الأكلِ بالصيام، وأخيرًا: ضبط المحفِّزات الغير طبيعية، وهي تختلف من شخص لآخر، التقنية عموما تُعَّد أشهر هذه المُحفِّزات، وهدفي كان الانقطاع عنها نهائيًا خلال التجربة.

قد يَصعُب تحقيق مثل هذه الشروط خصوصًا لمن يعمل بعمل مرتبط بالإنترنت والتسويق وغير ذلك، ولكن حاول أن تسدِّد وتُقارب، وأن تصنع تجربتك الخاصة بما يتلائم مع ظروفك. لحسنِ حظّي فأنا الآن في إجازة، وليس لدي أمر يقطعني سوى برنامج إلكتروني بإمكاني تأجيله، ونفسٍ أمّارةٍ بالسوء تحتاجُ إلى مجاهدة!

التجرُبة تفصيلاً

بداية التجربة: يوم الأحد، والنهاية: يوم الخميس.

اليوم الأول: البداية المرتبكة

وضعتُ تنظيم النوم على رأس الأولويّات، ولكن لسوء الحظ (أو لضعف العزم) سَهِرتُ الليل كاملًا ليلةَ الأحد، لم أنم سوى لساعةٍ واحدةٍ فقط.

التدوين كان الشعلة التي أوقدت نار الحماسة بداخلي، فقد كنتُ أدوِّن ما يحدُث معي، والخواطر التي تجول برأسي. من الأمور الطريفة أنه لولا هذا التدوين لما تذكَّرتُ شيئًا من هذه التجربة، تبًّا لذاكرتي (:

أعقَدُ العادات وأكثرُها رسوخًا، ما كان مرتبطًا بحاجةٍ بيولوجية في الإنسان، والخلاصُ منها يحتاجُ إلى مكابدةٍ وعناء شديدّين.

من الجيِّد أن ينقطع الإنسان على عملٍ ما، ويصُبَّ كُلَّ تركيزهِ عليه، بدلًا من أن يُشتِّتَ عزائمَهُ، كأن يُخصِّص أسبوعًا لدراسةِ موضوعٍ مُعيَّن، أو تعلُّمِ مهارةٍ ما.

اختلال وقت النوم يسبب للإنسان اضطرابًا على الصعيدَين النفسي والذهني.

أتممتُ الصيام، ولم أستعمل وسائل تقنية سوى لخمس دقائق فقط.

اليوم الثاني: الذكريات

النوم كان مُنضبِطًا، وتمكنتُ من الصيام.

لا بأس بحياة كهذه! مع الانغماس في وسائل التقنية المُعاصِرة يشعر المرء وكأنه لا يستطيع العيش بدونها، ولكن بمجرّدِ الانقطاع عنها سترى أن الحياة ماضيةٌ بها وبدونها، وأن هنالك الكثير من الأمور التي يمكن للشخص أن يضعَ وقتَهُ فيها.

مما يميِّز الخلوة بالنفس أن بها استرجاع لكثير من الذكريات الضائعة، وكأنَّك تقوم بعمل استرداد لذاكرة التخزين المرميَّة في الدُرج، وتقوم بعد ذلك بتحليل المواقف السابقة والنظر فيها، أن تغوص في أغوار نفسك وترى ما هي الدوافع، وما هي المثبِّطات!

استشعرتُ التعافي من داء القلق "الكاذب" من ضياع الأوقات، هذا الوقت الذي كنت أرى بأنه ضائع وأنه تفكير بالماضي بلا أي منفعة لم أكن لأستثمره، بل كان سيتبدَّد في مواقع التواصل الاجتماعي.

واجبنا كمسلمين، أن نسأل عن الحُكم قبل أن نسأل عن الحِكمة، وهذا للأسف أمر يغفل عنه كثير، يسألك عن حكمة منع الخمر، ويجادلك فيها - أي الحكمة - غافلا عن معنى من أسمى المعاني، ألا وهو (التسليم لله ﷻ ولرسوله ﷺ) يليه بعد ذلك ما يليه.

الخلوة نافعة، وبها خيرٌ كثير، لكن لعقلٍ عارف، لا عقلٍ فارغ!

اليوم الثالث: الظمأ

كاد يقتِلُني الظمأ في هذا اليوم، أفطرت بعد سجال دام أربع ساعات. نومي صار أكثر انضباطًا.

طباعُ البشر والأصول والقواعد المتجذِّرة في نفوسهم اجتمعت وتكتَّلت لتكوّن إنسانًا. تغيير الإنسان يحتاج تغيير لطبيعة هذه الكُتَل، وهذا لا يتِمُّ في يومٍ وليلة، بل يحتاجُ الأمر إلى مجاهدة ونَفَسٍ طويل.

عبارة قرأتُها منذ فترة، ولا زال معناها يجلجل في رأسي: إن أعظم حربٍ يخوضُها الإنسان هي حربه مع نفسه، فإن انتصرَ فيها انتصرَ بجميع حروبه.

(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ).. الأمر الذي لا يتحقَّق أي انتصار الا به.. هو البدء!

ان لم يكن العقل ممتلئًا بالعلم، كان تفكيرُهُ وتفكُّرُه وبالاً على صاحبه، أَي: كلما قلَّ العلم زاد ضررُ التفكير.

النفسُ كُلَّما أشبعت شهوةً بحثت عن أختها لتُشبِعَها، والبطن هي أم الشهوات، فإن ضبطتها ضبطتَ ما بقي.

الرياضة مصدر عظيم للسعادة، خصوصًا إن كانت - الرياضة - مُحبَّبةً للنفس خارج إطار الممارسة، ككرة القدم للكثير.

النشاط البدني مِرانُ البَدَن، والقراءة مِرانُ العقل، والصلاة مران العباد على سهولة الانقياد لربِّ البريّة.

اذا راودتك نفسك على فعل ما تكره فاهرب للنوم!

لم أستطِع النوم هذهِ الليلة، أبدًا، لسببٍ أجهله، وهذا يُبشِّر بيوم تالي سيِّء!

اليوم الرابع: دوّامةُ السَّهر

فشلٌ في ضبطِ النوم، ولكن استطعتُ الصيام بفضلِ الله.

استغِلَّ لحظات الحضور الذهني بتقييد حركة النفس في الأوقات التي تغلب فيها الشهوة ويضعف فيها العقل.

يوم مُرهِق بسبب ساعات النوم المُتقطِّعة.

اليوم الخامس: الهاوية

بدأت اليوم بدايةً مقبولة، ولكن سوَّلت لي نفسي اللعبَ بجهاز البلايستيشن، كانت هذه شرارة الإخفاق. لم يكن البلايستيشن هو السبب، بل كانت هِمَّتي الضعيفة. من الأمورِ التي لم أجد لها حلًّا، هذه المرحلة الفاترة، التي تلي الإنجاز، مرحلةٌ باردة تهوي بكل إنجازك وصبرك في الأيامِ التي مضت، دون رحمة، ودون سبب منطقي!

وددتُ لو أن لي صديقًا أخًا أو مجموعة أصدقاء، ممَّن يدعون إلى الخير، نلتقي كل فترة ونشُدُّ من إزر بعضِنا البعض..

قرَّرتُ أن أقف هُنا، وألّا أستمرَ ليوم سادس وسابع، قُتِلَ الدافع للاستمرار لدي بعد استباحة كل القواعد في هذا اليوم :)

أعتذِرُ على الإطالة، ولكن حاولت أن أبرزَ لكم كل الملامح التي رافقتني في رحلتي، قد ترى تناقضًا بين الآراء بمرور الأيام، وهذا طبيعي، فالخلوة فرصة لتقليب الأفكار، وأنا نقلتُ الوقائع والأفكار كما كُتِبَت في يومِها الذي كُتِبَت فيه. من كان لديهِ سؤال حول التجربة فليتفضَّل.

استدراك: رافقني خلال عزلتي الكتاب الماتع "الفصل بين النفس والعقل" وهو من أكثرِ الكتبِ التي قرأتها فائدةً ونفعًا، ويتّصِل الكتاب بفضاء الشهوات، والنفس وما تهوى، والعقل وتحكيمه للأمور، مما أفاد كثيرا.

أختِم بذكر فوائد التجربة:

  • الإحساس بقيمة الأشياء.

  • النشاط والتحفُّز للقيام بأمور كانت غير مستساغة للنفس، كالقراءة مثلاً والعمل، فهي كل ما لديك لفعله!

  • التخلُّص من العادات السيِّئة، وفرصة لمراجعة النفس.

  • تحسُّن (حقيقي) بأداء الذاكرة.

  • فترة مليئة بالروحانيّات والعبادات، شعرتُ فيها وكأنَّ روحي غُسِلَت.

  • استشعار مدى طول الوقت الذي نملكه.

  • معرفة أهمية التدوين المُستمِر، فعندَ المراجعة يقومُ العقلُ بالربط، وتنكشف لهُ فضاءاتٌ لم يلقِ لها بالًا.