ذلك العالم الفسيح الذي نعيش فيه، وعاش فيه من قبلنا مئات الأجيال التي رحلت وتركت أثرها أو رحلت دون أثر وكأنها لم تأتي، لطالما شغلني عدة أسئلة بخصوص هذا العالم، ممن يتكون؟ هل من يابسة ومحيطات وبحار وأنهار وجزر، هل هذه هي مكونات العالم، وهل تلك هي مقاييس قُدرات العالم وثراوته الحقيقية، أم أن للعالم مكونات أخرى هي أكثر عمقاً وفائدة من تلك الثروات الظاهرة والمكونات الملموسة على سطح الكرة الأرضية.

لعل القصة التي ألفها الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلوا صاحب الرواية العالمية "الخيميائي" كانت تحوي أقرب تعريف للعالم من وجهة نظري، وأقرب التعاريف إلى المنطق، ويقتصر ذلك التعريف في كلمة واحدة "الإنسان"، حيث أوضح أن الإنسان هو بناء العالم، وبناءاً على هذا البناء وجودته يكون شكل العالم وجودة الحياة فيه.

تقول القصة:

" كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة، ولكن ابنه الصغير لم يكف عن مضايقته، وحين تعب الأب من ابنه قام بقطع ورقة في الصحيفة كانت تحتوي على خريطة للعالم ومزقها إلى قطع صغيرة وقدمها لابنه وطلب منه إعادة تجميع الخريطة ثم عاد لقراءة صحيفته، ظاناً أن الطفل سيبقى مشغولا بقية اليوم، إلا أنه لم تمر خمسة عشر دقيقة حتى عاد الابن إليه وقد أعاد ترتيب الخريطة !

فتساءل الأب مذهولا :

"هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا ؟!

رد الطفل قائلا :

" لا.. لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة ، وعندما أعدت بناء الإنسان..أعدت بناء العالم "

في فلسفة عميقة وبأسلوب بسيط أوضح باولو كويلو نظرته، فالإنسان هو العالم، هكذا ببساطة واختصار، هو الذي يجعله صالحاً للحياة وهو الذي قد يجعله مقبرةٌ كبيرة، في القصة حين أعاد الطفل تشكيل الإنسان أعاد تشكيل العالم كله، وفي الواقع كذلك، إن تم تشكيل وعي الإنسان على مفاهيم العنف والحرب والدمار، كان العالم ساحة حرب كبيرة، تكثر فيها المقابر وينعدم فيها التقدم والإزدهار وتتدنى فيها حياة الفرد وتزداد البطالة ويعم المرض.

وإن تم تشكيل وعي الإنسان على مفاهيم العطاء والتقدم والسلام والتعلم واستغلال الثروات والحفاظ على البيئة، اختلف العالم بالكلية عن الشكل الأول. وكان مكاناً يوفر كل سبل العيش الكريم لسكانه.

فالمكان هو نفسه في جميع الأزمان وعلى مر العصور، ولكن البشر يتاورثون تلك الأرض، وبناءاً على عقلية أولئك البشر في حقبة ما، يكون العالم في تلك الحقبة إما متخلفاً أو متقدماً.

ولعل قائل يقول:

إن تلك النظرة شاملة وعامة، فالعالم ليس متقدما كله ولا متخلفاً كله ولكن لكل دولة مقدمات وأسباب نجاحها أو فشلها.

سأقول لك أجل يا عزيزي، إن تلك النظرة تنطبق على كل دولة على حدة، فبناءً على عقلية الإنسان في دولته تكون قيمة دولته بين مصاف الدول، بل تنطبق على المؤسسات داخل تلك الدولة بأنواعها (الأسرة والمدرسة والمصانع والشركات والمحال التجارية والمؤسسات الحكومية)

فبناءاً على عقلية الإنسان فيها تنجح المؤسسة بالتعاون والإخلاص والتفاني وإنكار الذات، أو تفشل بإنتشار الإستغلال والتواكل والرشوة وعدم الإخلاص في العمل.

ولعل ذلك يبرز أهمية التربية والتعليم وجودتهما في أي دولة.

وبرأيك، كيف يكون الإنسان صالحاً في بيئته إن كانت بيئته ليست صالحة ولا تساعده على ذلك؟"وأقصد بالبيئة هنا، المجتمع والأسرة والتعليم"