استغلال وقت الترفيه بشكل ذكي ومُنتج هو الأختبار الأخير للحضارة. - جي بي ناش، كتاب  فلسفة الاستجمام والراحة.

عندما نجاهد خلال جدول عمل الأسبوع المُرهق، قد يبدو لنا أنّنا أكثر مخلوقات هذه الأرض انشغالًا، لكنَّ الحقيقة أنّ ساعات العمل قد انخفضت بشكل ملحوظ عن أسلافنا قبل 150 سنة (1) كما أوضح الباحثون، وبالتحديد انخفضت للنصف. أيّ أنَّ الذي كان يعمل في عام 1800 بين كانون الثاني إلى تموّز، كان يعمل أكثر مما نعمله الآن في سنة كاملة! جائحة كورونا أيضًا ساهمت بزيادة أوقات الفراغ بسبب العمل من المنزل، الذي سيجعل الكثيرين يتمسّكون بهذا النمط من العيش حتّى بعد الجائحة (2).

الانسان منذ قديم الزمان، كان يعمل ويحصل على نتاج عمله بشكل مباشر، بجمع الطعام أو الصيد، لكن مع تطوّر الحضارة والركون للصناعة، أصبحت هناك فجوة بين عمل الانسان وناتج عمله، فأنت تأخذ راتبك بعد شهر، وخلال هذا الشهر ستقضي وقتك في العمل الكئيب!

زادت أهميّة الاستجمام

ولهذا السبب، زادت أهميّة أوقات الفراغ والاستجمام، الأوقات خارج العمل التي تُعيد شحن طاقة الانسان، لكنّها سلاح ذو حدّين، فهي كما يقول جي بي ناش، يُمكن أن تؤزِّم معاناة الانسان، ويمكن أن تُعيده لعمله نشطًا.

يُمكن أن تُقضى أوقات العطلة والفراغ بشكل سلبي، بتصفّح ما يكون على الشاشات، ويُمكن أن تُقضى بتعلّم مهارة تُشارك فيها الحواس، ويُثار فيها الفضول، الأمر الثاني هو الذي يؤكِّد ناش على أهميّته.

وقت الراحة بحسب ناش يُمكن أن يشحن الاهتمامات، ويُحفِّز احساس الانجازات، التي هي احاسيس ضرورية لفرد غير راض على عمله في عصر الصناعة، وفي تعلّم هذه المهارات والشعور بهذه المشاعر يُمكن أن نتقوّى على أعمالنا اليومية التي لا تقدِّم شعور الرضا بشكل مباشر.

لا تحدث بشكل تلقائي

مشكلة استغلال أوقات الفراغ أنّها لا تحدث من دون نيّة وانتباه، لا تحدث بشكل عفوي، استغلال وقت الراحة بتعلّم مهارة تنطبق عليها تنظيرات ناش هي واحدة من أكثر المهارات الضرورية للأنسان الحديث.

هناك العديد من الكتب والنصائح في ادارة الوقت وزيادة الانتاجية، ليكون لك وقت فراغ أكثر، لكن ليست هناك الكثير من النقاشات عن الطريقة الصحيحة التي يُمكن أن نقضي بها أوقات الفراغ، ذلك لأنّنا نشعر أنّه شيء يأتي عفويًا من دون تنظيم وتخطيط.

المشكلة أننا مررنا بالكثير من العُطل من دون نيّة واضحة لما نريد فعله فيها، ومعظم تلك العطل مرَّت بلون واحد، لا نذكر منها شيئًا كما لو كانت يومًا واحدًا مُتصّلًا، وعند نهاية وقت العطلة، لا نلقي باللوم على تخطيطنا، بل على الوقت نفسه، لو كان لنا وقت أكثر لاستفدنا من ذلك الوقت بشكل أفضل!

تعلّمنا أنّ الاستفادة من وقت الاستجمام هو فنّ بذاته، وهو ليس شيئًا يأتي من ذاته. -جي بي ناش.

الاستجمام والمجتمع وهرم ناش

جي بي ناش من هذه المقدّمات في كتابه ينطلق إلى طريقين، الأوّل هو أنَّ قضاء وقت الاستجمام بشكل صحيّ ليس مفيدًا لصحّة الفرد بل للمجتمع ككل، والطريق الثاني يتحدَّث عن أهمّ فكرة في الكتاب وهو هرم ناش.

خلفية الفكرة الأولى هو أنَّ ناش قد كتب الكتاب في الستينيات، وهو زمن كثر الحديث فيه عن الديمقراطية، فأراد ناش الحاق فكرته بهذا التيّار، فهو يقول أنّ أفراد المجتمع لو قضوا وقت فراغهم بشكل مفيد، لما زاد هذا من صحّتهم النفسية فقط، بل ساهم في صحّة المجتمع الديمقراطي ككل، فالفرد سيتعلّم التفكير المنطقي، الصبر، التفاعل مع مجتمعه ويكون متيقظًا لما يجري في أروقة المجتمعات السياسية.

موت الحضارات كما يعبّر ناش يأتي من ركون المجتمع إلى قضاء وقت فراغهم في "الفُرجة السلبية" كما كان يحدث في المبارزات الاستعراضية في عصر الرومان، عندما يرضى الناس بمثل هذه المُتع، لا ينتبهون للانحلال المجتمعي والسياسي الي يكون حولهم، إذ أنّهم تشبّعوا بالترفيه السطحي.

الفكرة الثانية هي هي هرم ناش، وهي فكرة تحتاج إلى تقديم وتفصيل، وفيها الكثير من النصائح العملية، وهذا ما سأدّخره للمساهمة القادمة، فقد طالت هذه بما يكفي.

من يُريد أن يقرأ الكتاب قبل أن أطرح المساهمة القادمة سأكون سعيدًا بذلك. اسم الكتاب Philosophy of Recreation and Leisure

(1)

https://www.bls.gov/news.re... (2)