لم تكن نجيبة تفتقر إلى الذكاء، بل كانت متقدة الذهن، متفوقة في دراستها. لكن الحياة ليست امتحانًا ورقيًا تُحلّ فيه الأسئلة بدقة، إنها سلسلة من الامتحانات التي تُسأل فيها الروح، ويُختبر فيها المبدأ، ويُكشف فيها الوجه الحقيقي لأولئك الذين يبتسمون كثيرًا.
عبرت نجيبة أبواب الجامعة وهي تحمل حقيبة من الأحلام وتوصيات مشددة من والدتها: "العريس لا بد أن يكون بشكلٍ معين، ومكانة معينة، وثقافة معينة". فكان أول صوت استمعت له هو صوت الأم، الذي لم يكن سيئًا في جوهره، لكنه كان غير ناضج. سعت نجيبة لإرضائه، فانجرفت نحو من لا يشبهها، من ألبسها ثوبًا لا يليق بها، ورافقها إلى أماكن لم يكن لها فيها مكان. فتخلت عن مبادئها شيئًا فشيئًا، لا حبًا في الضياع، بل طمعًا في القبول. وكان الثمن؟ أن تُستغل وتُترك.
ثم جاء صوت آخر، مختلف اللهجة، يدّعي الوعي السياسي والانتماء للوطن. وفي وهج الكلام الرنان، ارتدت نجيبة قناعًا جديدًا. صارت تتحدث بثقة، تُحرّض، تُنظّر. لكنها لم تدرك أن الوطنية لا تُقاس بالشعارات، ولا بالانتماء الزائف، بل بالثبات عند الامتحان. تركها ذلك الصوت أيضًا، وترك خلفه فوضى داخلها لا تقلّ عن فوضى الجامعة من حولها.
ثم جاء الصوت الثالث، صوتٌ يُشبه الحكمة، يُشبه الدين. ارتدت الحجاب، غيّرت مظهرها، غيّرت ألفاظها، لكنها لم تغيّر فهمها. انجرفت مرة أخرى، نحو رجل لبس ثوب التدين ليخدعها باسم "الحلال". وكان كغيره، قناعًا يسقط حين تحين الحقيقة.
في كل مرة، كانت نجيبة تُغيّر جلدها، تظن أنها تطور أو ترقٍّ، لكنها كانت تخسر أجزاء من ذاتها. لم تكن المشكلة في التغيير، بل في أن تكون ريحًا تهزّها كل يد، وصوتًا يتشكل بصوت الآخرين. حتى إذا أنهكتها الرحلة، عادت إلى نفسها، لا كما كانت، بل أقوى: لأنها أدركت أن خير الأمور أوسطها، وأن التغيير الحقيقي لا يخلعك من جذورك، بل يسقيها.
فهمت أخيرًا أن الإنسان لا يستطيع أن يكون ظلًا لغيره، وأن الحياة ستغربله حتى يصفو، حتى يُفرَز ما هو حقيقي مما هو زائف. وأنه لا بأس أن نتغير، لكن بشرط ألا نخسر هويتنا.
التعليقات