يُعتبر الدماغ العضو الأكثر تعقيدًا في جسم الإنسان، فهو لا يقتصر على معالجة المعلومات فحسب، بل يمتلك أيضًا آليات دفاعية ذاتية تحميه من المؤثرات السلبية والمضرة بالصحة النفسية والعصبية. تشير الدراسات الحديثة إلى أن الدماغ السليم بطبيعته وفطرته يرفض التعرض المستمر للمؤذيات، سواء كانت سلوكية، فكرية، كيميائية أو عاطفية، ويُظهر مقاومة داخلية ضدها فهو مصمم للبقاء والنقاء ومبرمج فطريًا لحماية نفسه من المخاطر هذه "الفطرة العصبية" تنبع من مناطق معينة، أبرزها الجهاز الحوفي، الذي يضم البُنى المسؤولة عن العواطف مثل اللوزة الدماغية (Amygdala) والحُصين (Hippocampus) هذه المناطق تستشعر التهديدات — بما في ذلك التوتر، العلاقات السامة، والمحفزات الحسية السلبية — وتُطلق إشارات للانسحاب أو المقاومة

عندما يتعرض الفرد لبيئة سلبية أو لمحفزات تؤدي إلى القلق أو الاكتئاب، يقوم الدماغ بإفراز هرمونات مثل الكورتيزول والأدرينالين، لكن الدماغ السليم لا يسمح باستمرار هذا النمط الضار، إذ يسعى إلى العودة إلى التوازن الداخلي (Homeostasis). وهذا يفسر شعور الإنسان السليم بالانزعاج الفوري عند التعرض لضوضاء مفرطة، علاقات مؤذية، أو أخبار محبطة باستمرار.

آليات الدفاع العصبي

1. التكيف والتجنب: يقوم الدماغ بتمييز المحفزات السلبية ومحاولة تجنبها، مثل الانسحاب من بيئة مليئة بالصراخ أو الأشخاص ذوي الطاقات السلبية.

2. التقوية الانتقائية للشبكات الإيجابية: الدماغ يعزز الروابط العصبية التي ترتبط بالتجارب الإيجابية، مثل الموسيقى الهادئة أو الرفقة الطيبة، ويضعف الشبكات المرتبطة بالتجارب المؤذية.

3. تنشيط مناطق المكافأة: مثل النواة المتكئة (Nucleus Accumbens) التي تتحفز عند ممارسة سلوكيات صحية، فتُعزز الميل لها وتثبط الميل للمؤذيات.

الدماغ السليم لا يرفض المؤذيات من منطلق عصبي فحسب، بل يُطوّر مناعة نفسية قائمة على الوعي والإدراك. الفرد الذي يتمتع بصحة عقلية جيدة يكون أكثر قدرة على تمييز السلوكيات السامة، ويطور مهارات مثل الحدود الشخصية، الرفض الواعي، واختيار البيئات الإيجابية.

تؤكد الأبحاث أن التعرض المستمر للسلبيات دون مقاومة يؤدي إلى إجهاد دماغي مزمن، ينعكس على شكل اضطرابات في التركيز، النوم، والمزاج، وقد يمتد إلى أمراض عضوية نتيجة اضطراب محور الدماغ-الجسم.

كيف نحافظ على هذا الرفض الفطري للمؤذيات؟

1. تنمية الوعي الذاتي: عبر التأمل ومراقبة المشاعر والاستجابات.

2. التغذية العصبية السليمة: مثل الأحماض الدهنية أوميغا-3، ومضادات الأكسدة.

3. البيئة الصحية: الابتعاد عن الضوضاء، العلاقات السامة، والإعلام المليء بالتشاؤم.

4. النوم الجيد: حيث يعيد الدماغ ترتيب شبكاته وتنظيفها من السموم.

5. التفاعل الاجتماعي الإيجابي: لأن العزلة والتوتر يضعفان دفاعات الدماغ.

الدماغ السليم لا يكتفي بالعمل على نحوٍ مثالي، بل يسعى للحفاظ على هذا الكمال عبر رفضه للمؤثرات السلبية والمؤذيات. إن فهمنا لهذا السلوك العصبي الفطري يمكن أن يوجهنا نحو بناء حياة أكثر اتزانًا ووعيًا، تعزز الصحة النفسية والجسدية معًا. فالعقل السليم ليس مجرد نتيجة لصحة جسدية، بل هو أيضًا حارسها الأول.