مثل فرعٍ طريٍّ خرجَ للتو من تُراب الجامعة، أخضر ، يسطعُ بالأمل، يحملُ في عروقه أحلامًا بيضاءً عن الرزق والنفوس.كنتُ أظن أن الدنيا تستقبلُ الطيبين بالأحضان، ويكفي للجهدِ بأن يُمزجَ بالصدقِ؛ حتى يُنبتَ وردًا.
حتى جاءت التجربة الأولى… أول مرة يحتكُّ بها جلدي الرقيق بأنياب هذا العالم ، تلك الأنياب التي لا تخشى عليكَ من كدمةٍ نفسيةٍ، أو رَضةٍ في الشعور. وجدتُ نفسي مع طُلابٍ صغارٍ تتشققُ من خلالهم صورة الكبار، ومع أمهاتٍ يخلطن بين الرزق والنهب، التربية والسُلطة وبين الحقّ والكرامة.
و كمنْ يعوّمُ يديه في بِركةٍ، حتى افتَطَنَ إلى أنها الطُّوفان.
رأيتُ وجوهًا تلمِّعها الأقنعة، وكلماتٍ مسمومةً تتدلى من ألسنةٍ كالسياط. -كان ذلك شرٌّ لا بد منه- أن يخطو هذا الجَنين من رَحِم أمه الآمن ، إلى دار البلاء والابتلاء، حيث الجميع هنا لا يتساون بالقيم الأخلاقيّة.
لم يكن الظلم الذي وقع عليَّ مجرد دينار مسروق!!
إذ يستطيعُ أيُّ عابرِ سبيلٍ ماكرٍ أن يغفلك لحظةً ويسرقُ كل ما بجيبك ، وتحزن، بل تحزن كثيرا على سرقتهِ تلك، لكن إطار المشهد سيظلُّ عبارة عن "سرقةٍ من غريب"
ولكن يا للأسفِ!! حين يُسلبُ حقك وتُداس و تُنفى في مهبِّ الصمتِ تارة، و مرة أخرى، يُسلبُ حقك وتُداس وتُنفى في مهبِّ ألسنةٍ نكرة، رديئة، طبعها مثل طبع الدّواب، يتفادى الناس مشاحنتها، ويتَّقون شرّ لسانها و بلطجيتها، ولهذا يظل سَمَّها يسري ويمشي سنينًا وأعوامًا دون أن يُبتَر.
ناضلتُ من أجلِ حقّي :
نعم لقد فعلتْ، بكلامٍ حازمٍ شفيفٍ لا يجرح لكنهُ يقصمُ وهم الآخر، لكن الآخر استفحلَ في لؤمهِ، فصمتُّ وأنا أملك القدرة على الرد، بل كان الرد أسهل بكثير ، إنه حاضرٌ ومستعدٌ لأن يخرج من بئرِ الحقِ والدليل، إنه مكينٌ في حذاقتهِ، لباقتهِ، أسبابهِ و دلائلهِ ..
لكني ومع كل هذا، سكتُّ ليس ضعفًا، بل لأني اكتشفت أن المعارك تُنتقى، ليس أي إنسان يستحقُ أن يكون عدوّي، فمالجدوى من الملاسنةِ مع عديمي التربية والضمير؟
سينتهي وَقودي الداخليّ والنفسيّ،بينما هم سيستمتعون ؛لأنها ساحتهم.
في هذا الميدان الصغير، تعلّمتُ أن الطيبة بلا حدود تتحول إلى فخ، حيث ليس الجميع يستحقُ جانبك اللطيف،حديثك السلس، وظرافة الجلوس بقربك، وأن الكرامة ليست شعارًا بل سياجًا إذا اعتُديَ عليها ؛ (هُدرَت قيمة الإنسان).
تعلّمتُ أن بعض البشر قد يكونوا مكسورين ومظلومين، أفواههم ممتلئة بغبارِ النِّعال، وسط أزواجهم مقموعين، وسط الأكبر منهم منبوذين، ووسط مراياهم مهزوزين، لكنهم يسترجلوا عليكَ لا قوةً، بل انتقامًا من حقوقهم الأولى التي لم يستردُّوها بعد.
أمّا الآن.. عرفتُ كيف أحمي ضوئي من عتمة الآخرين،
و لم أعد أرى ما ضاعَ مني، بل ما كسبته: درسًا في الحذر، يقظةً في اللطفِ ، ويدًا تَمسكُ بالحق دون أن تَتركَ قلبها يسقطُ في الوحل.
التعليقات