سألني أحد الأعزاء ممن أشهد لهم بمحبتي، قال: "لماذا تكتب وأنت بالكاد يتابعك بضعة نفر لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة؟"، ربما يا عزيزي لم تستوعب بعد فكرة أن يكون القلم صاحبك أو تكون مفكرتك رفيقتك، هذا متنفس لا يغيره الزمان عليك ولا تساوره نحوك الشكوك.

الكتابة يا عزيزي هي حل آخر لكل معضلة، حل لا يمكنك أن تمنع نفسك من اللجوء إليه وقتما حلت بك نائبة، حلًا لا يمكنك تفاديه، ربما هو شعور بالنقص بأنك لم تفعل شيئًا فتخط بيدك على الورقة كأنك تُصدِّق على وثيقة استسلام، لكنه غالبًا ما يكون استنفار ما، داخلك على هيئة كلمات كأنك توقع إعلان حرب.

أكتب لأن الكتابة هي السفر عبر الزمان، ليس فقط للماضي، بل جُلُّه للمستقبل، أكتب لأتعافى من آثار الخيبة، أكتب ليندمل جرح بقلبي منذ كنت في التاسعة، أكتب لتتماثل كل ندوب الخذلان للشفاء، وتبرأ روحي من كل وعكة.

أكتب لأن الكتابة هي المرآة التي لا تكذب، فيها أجد نفسي تتحدّث بصمتها، وتبوح بما عجزت أن أقول بصوتٍ خافت، هي الرحلة التي لا تمتد إلاّ في عمق روحي، كأنه بستانٌ مسحور ينمو فيه الأمل والوجع معًا، تتراقص الأوجاع على أنغام الحروف، بينما تتناثر الكلمات كنجوم تتلألأ في سماء ليلتي، إذ تضيء دربي المظلم، وتكشف عن زوايا لم تكن تُرى إلا بالوجدان.

أكتب لأحطّم قيود الزمان، وأفتح نافذة على عوالم لم تكتمل بعد، كأنني رحالة يبحث عن واحات معنى وهوة أمنه، أهرب من رتابة اليأس، وأحلق في سماء الأحلام، حيث لا حدود للأمل، ولا قيود للحروف، أكتب لأجد من يمدّ لي يده، كأنّها خيوط من ضياء، تنسج لي جسرًا يعبر بي من ضيق الزمان إلى رحابة الأبد، فكل كلمة أجدها في صفحاتي، كأنها لؤلؤة نادرة، تنمو بين أمواج المشاعر، وتكبر طيبة على مر الأيام، تستقيم كصدى يعيد تشكيل ذاتي، ويعيد بناء روحي المهددة بالانكسار.

أكتب لأنني أهوى الكتابة كأنها ابنتي المدللة، أدخل كل يوم إلى المنزل فتلتقيني بحضن عفوي يزيل عني حرارة الغياب، تطيعني إذا حاولت، وتغفر لي إذا قصرت، وتدعمني إذا فشلت، لم أستعن مرة بها إلا وأنصفتني، وكأنها ملاكٌ حارس يقف على باب عمري مدافعًا عني، تدفعني إذا ثقلت روحي "أدرك ما فات وكن قويًا تنل ما هو آت".

أحب الكتابة كأنها أنثى رقيقة، تشتاق لاحتوائي وتحيمة، أعيش في رحابها كأنها واحة من الأمان، أخلع عنها عناء الوحدة، وأرتشف من عذوبتها سمفونية دافئة، تطيب بها أنفاسي، وتشرق بها شمسي المقمرة، أكتب لأختصر كل المسافات بيني وبين نفسي، لأحفر في جدران ذاتي كلمات تظلّلني، حين تبتعد الأصوات، وتختفي الأفكار، تبقى حروف عميقة كالبحار، تتسرب إلى أعماقي، وتطهر ما فيه من أوجاع، وتذكرني أن الحياة قصيرة، لكن الكلمات، عذابها وشفاؤها، لا نهاية لها.

أكتب لأن الكتابة هي سلاحي الذي لم يخذلني وصديقي الذي لم يتخلى عني، فهي المرافقة التي تحميني من عبث الزمن، والملاذ الذي ألوذ به حين تشتدّ عليّ العواصف، فيها أجد نفسي، وأحلق فوق أوجاعي، كأنني طائر مرهف الجناحين يُحلق بحرية بين سماوات الكلمات، يحمل أجنحته على أجنحة الحلم والأمل.

الكتابة هي مساحتي الآمنة التي لا أخشى فيها على نفسي، مطمئن أنها لن تبوح لأحد بسرّي، هي أنسي الوحيد المخلص، وشغفي الأجمل، فيها أُطلق عنان روحي، كأنها زهرة تتفتح برقة وهدوء، وورود لا تذبل، تروي عطش قلبي وتنعش عطره بكلمات من نور وصدق، لا تقترب منها يد ظالمة أو حاسدة، فهي حديقتي التي أزرع فيها أمنياتي وأحلامي، وأحتمي بظلها من حرارة الخذلان.

لا أري نفسي خفيف الروح والجسد إلا بصحبتها، أجد نفسي كأنني عود الزيزفون يترنح على أنغام نسيم الصباح، لا يبدد سلامه أيُّ غريب، ولا يزال جوهره أيُّ عابر أو تافه، فهي نبض أنفاسي، وعطر أيامي، وصوتٌ يسكن أفق روحي، يهمس لي دائمًا: "لا تخف، فأنتمائي الوحيد هو للكلمة، فهي ملاذي وسناني، ووسيلةُ خروجي من عبث الزمن، لأعيش في مساحة من الهدوء والأمل."

ليس ضروريًا أن يُعجب الناس بما أقول أو أكتب، وأقول لنفسي: الناس وآرائهم ليسوا عاملًا أساسيًا في عملية تعافيك، وليسوا حجر ارتكاز في غدك، لذا لا تركن لأحد ولا تنتظر أحدا، فمن يكتب للناس يتلون قلمه بألوان لم يعرفها، سيصبح هذا القلم بعد برهة مجرد ممثل يؤدي ما يكتبه غيره ويردد ما يقوله الملقن، اكتب لنفسك وقلبك وحسك، ستمنحك الورقة وقتًا إضافيًا حينما ينتهي وقتك ولم تقل ما ينبغي قوله لتعوض فيها ما منعت منه نفسك.

أكتب لأنني لا أتقن مواساة أحدهم إلا عبر سطور أنظمها على مهل، لا أستطيع وصف حب أحدهم بداخلي إلا أن أفرشه على رقعة بيضاء حرفًا حرفًا وكلمة كلمة، فالكتابة هي الجسر الواصل بيني وبين ما أشعر به، بيني وبين من أخالطهم، الكتابة هي حظي في الحياة، حظي وجسري وشغفي.

سأظل أخطُّ بيدي ما يمليه قلبي حتى وإن كان مصير ما أكتب مثل مصير مئات الخطابات وعشرات الدفاتر في خزانتي، سأكتب طالما هناك نفس فأنا أكتب لأنني لا أجيد فعل أي شيء بالكفاءة ذاتها، أكتب لأن قدرتي على الكتابة فاقت قدرتي على الصبر فأجمعهم على ورقة بيضاء لأدون حلمًا وأتخطى عقبة.