أتيت من ثقافة عمل غربية حيث المدير هو جزء من الفريق، يجلس معهم في نفس المكتب، يتناول الطعام معهم خلال فترات الراحة، وينادونه باسمه بشكل طبيعي دون أي تمييز. كانت الفكرة أن هذا يخلق بيئة عمل غير رسمية تعزز التعاون والتواصل المفتوح بين الجميع. وعندما قررت تطبيق هذا النموذج مع فريقي، فوجئت بأنه يفشل مع بعض الموظفين الجدد، خاصة أولئك الذين في مرحلة التدريب. هؤلاء يشعرون بعدم الراحة ويجدون صعوبة في تجاوز الحدود بين المدير والموظف، إذ أن ثقافتهم تفرض احترامًا أكبر للمسافة بينهما. وفي بعض الأحيان، يتجاوز بعضهم هذه الحدود بشكل يفوق الوصف، مما يسبب خللًا في التوازن بين الاحترام والتواصل. في المجتمعات الغربية، يُنظر إلى هذه الحدود على أنها قد تعيق التواصل الفعّال، ولكن في الثقافة العربية، يُعتبر وجود هذه الفواصل جزءًا من احترام التراتبية في العمل. التحدي يكمن في كيفية دمج النموذج الغربي الذي يزيل هذه الحدود مع قيم المجتمع العربي الذي يقدّر المسافة المهنية بين المدير والموظف. في رأيكم كيف يمكن تكييف هذا النموذج ليحقق توازنًا بين التعاون المفتوح واحترام التراتبية الثقافية؟
لماذا يفشل نموذج رفع الحدود بين الموظفين والمدير في المجتمع العربي؟
بالفعل، أسلوب القرب الزائد من الفريق قد يخلق بيئة مريحة ومحفزة للبعض، لكنه في المقابل قد يربك آخرين، خاصة من اعتادوا على وجود مسافة واضحة بين المدير والموظف.
لذلك، نجاح هذا الأسلوب يظل نسبياً، ويتوقف على شخصية الفريق وخلفياتهم الثقافية. التوازن هو الحل؛ أن يكون المدير قريباً بما يكفي لفتح قنوات التواصل، لكن حازماً بما يحفظ احترام الدور والمسؤوليات. التكيف المرن مع اختلافات الفريق هو ما يصنع بيئة عمل ناجحة ومتكاملة.
لذلك، نجاح هذا الأسلوب يظل نسبياً، ويتوقف على شخصية الفريق وخلفياتهم الثقافية.
لكن أليست ثقافة الشركة قد تطغى على ثقافات الموظفين أحيانا؟ أنا مثلا كمدير حقيقي أكره فكرة المكاتب المغلقة أو حتى التملق الذي ليس له معنى ولا طعم. فكيف برأيك يمكننا سحب أُلائك الشرذمة القليلة إلى طريقة تعاملنا وانفتاحنا؟
لكن مهم جدا أن نراعي ثقافة البلد أو المجتمع لأنها عامل مؤثر جدا ووجود تعارض بين ثقافة الشركة وثقافة المجتمع المتمثل بسلوك الموظفين سيخلق نوعا من التعارض، فمثلا بشركتنا المدير جزء من الفريق وننادي بعضنا بأسمائنا لكن هناك حدود فاصلة في التعامل بما لا يتعارض مع المساحة الشخصية خاصة أن طبيعة العلاقات عند الغرب وشكلها يختلف عن ما نحن عليه كعرب وفقا لبيئتنا وثقافتنا وديننا بالتأكيد
كلامك صحيح نورا لكن طالما أن الجميع لا يخرج عن إطار الأدب والدين فيمكننا تغيير أي أعراف وتقاليد لأنها ليست كتب منزلة.
خاصة أن طبيعة العلاقات عند الغرب وشكلها يختلف عن ما نحن عليه
بالنسبة للعمل أرى حقيقي أنهم أفضل منا، فهم يطبقون تعاليم ديننا أكثر منا في العمل وهذا بالمناسبة ليس انحيازا لهم بل بناءا على تجربة شخصية في العمل وقبلها الدراسة والمعاشرة.
أتذكر مثلا عندما كنت في الجامعة بالولايات المتحدة كنت آخذ إحدى المحاضرات بالغرفة 37 في المبنى وذات يوم دخلت بالخطأ الغرفة المجاورة فوجدت العميدة تجلس ومعها شخص آخر في اجتماع، ولما اعتذرت أنني دخلت بالخطأ لم تنهرني ولم تخبرني أنها في اجتماع ولا يمكنني الدخول عليها بل تعاملت مع الأمر بكل هدوء. بعكس مثلا العمداء في الكليات المصرية الذين يخرجون من مكاتبهم بحراسة من الموظفين وإذا أردت أن تدخل لهم وجدت سيلا من الأسئلة من السكيرتارية كأنك دخلت مبنى المباحث الفيدرالية.
وقيسي على ذلك تعامل المدراء مع موظفيهم في كثير من الشركات حتى أن بعضهم كانوا يحكون لي أنها قد تصل أحيانا أن ترمي المديرة بما في يدها على الأرض ويأتي موظف فيأخذه من على الأرض ويعطيه لها مرة أخرى.
كلامك صحيح نورا لكن طالما أن الجميع لا يخرج عن إطار الأدب والدين فيمكننا تغيير أي أعراف وتقاليد لأنها ليست كتب منزلة.
انظر للواقع الذي نحن فيه بالمجتمع وعن ديننا تحديدا الذي يضع حدود واضحة للاختلاط، لا يمكننا تجاهله عندما نريد تطبيق مثل هذه السياسات في بيئة عمل مسلمة، لذا الوسطية مطلوبة، والحدود معروفة لو طبقاناه سنرتاح لذا تطويع التجارب مهم جدا مع مراعاة الثقافة، أقل مثال الشركات عندما تتوسع وتريد دخول سوق جديد تضع في اعتبارها ثقافة البلد وقد تغير من طبيعة منتجاتها فقط احتراما لثقافة البلد، لم يقولوا ثقافتهم ليست كتب منزلة، لذا مهم عند نقل تجارب أن نطوعها بما يتناسب مع ثقافة الشعب.
بعكس مثلا العمداء في الكليات المصرية الذين يخرجون من مكاتبهم بحراسة من الموظفين وإذا أردت أن تدخل لهم وجدت سيلا من الأسئلة من السكيرتارية كأنك دخلت مبنى المباحث الفيدرالية.
لا أعلم عن أي عمداء تتكلم وإن كان هذا العصر القديم الذي تستشهد به، وعن تجربة ولسنوات سواء كنت بالجامعة كطالبة أو حتى بالدراسات العليا كطالبة أدخل للعميد وأتحدث معه بسهولة فقط استئذان من السكرتارية لا أكثر، لا أتذكر أن أحد قال لي العميد مشغول الآن مري بوقت أخر، أو أن هناك مباني فيدرالية كنا نتجول في المبنى مثله مثل أي مبنى بالجامعة، بل مؤخرا ببرنامج الماجستير لم يعجبني امرا بإدارة البرنامج تحدثت وواجهت مدير البرنامج وانتقدت بوضوح وكان هناك نقاش جاد لم يعترض أو لم يعاقبني تقبل النقاش حتى وصلنا لنقطة اتفاق.
وقيسي على ذلك تعامل المدراء مع موظفيهم في كثير من الشركات حتى أن بعضهم كانوا يحكون لي أنها قد تصل أحيانا أن ترمي المديرة بما في يدها على الأرض ويأتي موظف فيأخذه من على الأرض ويعطيه لها مرة أخرى.
يبدو أن من حكى لك لا يعمل بمكان آدامي، حتى يقبل على نفسه ذلك، مع عدة تجارب بأماكن مختلفة ومحافظات مختلفة داخل مصر لم أرى هذا النموذج إلا بالأفلام والمسلسلات
لكن ما علاقة الاختلاط بفكرة التعامل بدون حدود مصطنعة في العمل؟ الحدود التي أتكلم عنها هي حدود وظيفية وليست حدود شخصية بالمناسبة، مثلا النبي --صلى الله عليه وسلم-- كان يتعامل مع صحابته بالشورى وكان ينزل عند آرائهم مثل نزوله لرأي سلمان الفارسي في بناء الخندق وخباب في غزوة بدر، مع أنه نبي معصوم.
ذكرت الاختلاط كمثال لتوضيح شكل التطبيق لنفس المبدأ بين الغرب وبين بيئة عربية، يعني ببساطة طبق المبدأ ولكن لا تنقله حرفيا طوعه بما يناسب بيئتك، مراعاة ذلك سيسهل التطبيق
لكن طالما أن الشيء متوافق مع المنطق حتى فلماذا لا نطبقه بل نعدل عليه أيضا؟ لكن المشكلة هنا ليست في تطبيق النموذج بل بفكرة تقبله من بعض الأشخاص. يعني هل منطقي أن تقبلي أن أعاملك كمدير وأنعزل عنك وتحبين ذلك مني وتقبلينه، ومن ناحية أخرى لو تعاملت معك كرفيق أو زميل بشكل طبيعي تنفرين أحيانا وتظنين أنني قللت من نفسي كمدير وأحيانا أخرى تستغلينه بشدة وكأننا نجلس في مطعم ولسنا في بيئة عمل؟
فكرة التقبل من عدمها تختلف وفقا لبيئة العمل وطبيعة النموذج، يعني لو الشركة تريد إدخال هذا النظام جديد على نظامها طبيعي جدا أن تجد مقاومة ضد هذا التغيير، فقد تجد مدراء يشعرن بقلة القيمة وأنهم بذلك يفقدون سلطتهم وموظفين ستجد أنهم يجدون هذا تجاوز، لذا مهم جدا أن تكون عملية التغيير تدريجية ويكون هناك تأهيل للفريق بأكمله حول التغيير وأهدافه ولماذا مهم أن يكونوا جزء منه، تدريجيا سيقل عدم القبول وسيصبح ضمن ثقافة الشركة نفسها
لا أعلم عن أي عمداء تتكلم وإن كان هذا العصر القديم الذي تستشهد به،
بغض النظر على أن هذه الأمور تحدث وهناك أشخاص لو كان المقال يسمح لذكرتهم لك لكن نعود فنقول أن عندنا يُعتبر السلوك الحسن من الأعلى شأنا للأقل هو ربما تكرما أو تواضعا كما يقولون لكن في بعض المجتمعات الأخرى هو شيء طبيعي حتى أنّ الوزير أو المسؤول الحكومي يسمونه بالإنجليزية بالترجمة الحرفية خادم عام.
يبدو أن من حكى لك لا يعمل بمكان آدامي،
ربما لأننا تعودنا على المعاملة الطبيعية من المنظمات الدولية وأشباهها نسينا ما يحدث في كثييييير من الكيانات المحلية وهذا الموقف الذي ذكرته لك حكاه لي موظف إداري كبير في مدرسة دولية بمصر عندما رآني أتعامل مع فريقي وهذه المدرسة بالمناسبة معروف عنها أنها مدرسة أولاد الرؤساء والأمراء وربما تعرفينها.
ربما لأن معظم بيئات العمل العربية هي مفخخة، أقصد سامة، مما يجعل وضع الحدود وعمل اعتبار للتراتبية هو الأسلم.
في بيئة العمل الغربية قد لا توجد صراعات بقدر ما توجد في بيئة العمل العربية؟
لن يوجد من يستغل قربه من المدير مثلًا للحصول على ترقية رغم أنه ليس الأكفأ. رغم أن هذا قد يحدث طبعًا لا شك. لكن بىالتأكيد سيكون بنسبة أقل لأنه على الأغلب يكون الجميع راضيًا عن حاله، ... لا صراعات.
ربما لأن معظم بيئات العمل العربية هي مفخخة، أقصد سامة
أشكرك على صراحتك رغدة؛ وللأسف هذا سائد في كل البيئات الغير محترفة ودائما يكون الخطأ الأكبر من المدير الذي يحب التملق والعصافير في بيئة العمل.
لكن نحن مثلا في شركتنا يكون دائما تقييم الأداء عبر مؤشرات أداء واضحة وملموسة ومرتبطة بالشخص نفسه في العمل لأننا تركنا فرصة الحرية للجميع حتى للاعتراض على أي قرار إذا كان لديهم حجج صائبة لأنه دائما الصحيح هو الذي يسود في بيئة العمل لدينا؛ لكن فكرة التملق والنفاق للحصول على أي ميزة إضافية هي ليست جزء من نظام العمل لدينا خصوصا وأننا معيار تقييمنا الأول والأخير هو الأرقام.
لكن المشكلة الحقيقية هي أنّ بعض من يدخلون إلى بيئة العمل مجددا وخصوصا المتدربين يكونون على الأغلب معتادين على النظام القديم والمعروف والذي نعرفه جميعا، وأحيانا إما يتركوننا سريعا لو لم يتكيفوا مع أسلوبنا أو أنهم يحاولون تغيير نمط التعامل المعهود عندنا ويحاولون السيطرة على الأضعف جأشا من الفريق وجذبه ناحيتهم، فكيف يمكننا منعهم من التأثير على انسجام الفرق؟
أظن أن سبب فشل هذا النموذج في مجتمعاتنا العربية يعود إلى فهم مختلف تماماً لفكرة (الاحترام) و(المسافة المهنية). في ثقافتنا، المدير يُنظر إليه كصاحب سلطة، والتقرب الزائد منه قد يُشعر البعض بالخروج عن حدود الأدب، أو حتى يُضعف صورته في أعين الموظفين، خاصة في بيئات العمل التقليدية. بل أحياناً، بعض الموظفين يستغلون هذا القرب لتجاوز حدودهم، ظناً أن العلاقة أصبحت (صداقة)، لا عمل.
لذا، تكييف النموذج الغربي هنا لا يعني نسخ التجربة كما هي، بل خلق بيئة يشعر فيها الموظف بالأمان في التعبير والتعاون، دون أن يشعر أن الهيكل الإداري تلاشى. قد يكون الحل هو (تقريب المسافة النفسية) لا الشكلية. مثلاً: تخصيص وقت للنقاش الجماعي، تشجيع الموظف على المبادرة دون خوف… لكن مع الحفاظ على وضوح الأدوار والمسؤوليات. التوازن هنا لا يكون بإلغاء الحدود، بل بإعادة تعريفها بطريقة تحترم السياق الثقافي وتحفّز الأداء في آن واحد
أنا عن نفسي أراه مربك للجميع ولكن البعض ينجح في إخفاء الشعور بالارتباك بينما يفشل البعض الآخر، كانت هذه مشكلة واجهتها أيضاً ولكن أثناء عملي في كينيا لم يكن القصد وقتها إذابة الجليد ولكن اضطر المدير لذلك بسبب صعوبة التواصل وهنا بدأت مساحة التعاون تفرض نفسها بصورة جبرية وأظهرت اللغة البعض بصورة خبرة تفوق حتى مجلس الإدارة والاعضاء القدامي كلهم.
وقتها لم نكن نعرف معيار التقدير الحقيقي هل هو للموظف المجتهد أم الموظف المقرب للمدير الأكثر صداقة معه ولم تكن فترة العمل مريحة لأحد.
أنا مع إذابة الجليد ورفع الحدود ولكن خارج العمل لا مانع من الترفيه أو لعب الكرة أو الذهاب لأي مكان كمقهى أو مطعم والتعامل وكأن الجميع إخوة ولكن داخل العمل التعامل رسمي وبيني وبينك ما تقدمه من قيمة وجودة وأداء فقط
التعليقات