بين مقولتي "معرفة الناس كنوز" و "البعد عن الناس غنيمة"، وبين قول أمي "لما لا تخرج لتروح عن نفسك قليلاً" وقولها "لما تأخرت بالخارج" قضيت فترة لا بأس بها في مراهقتي وأنا في حيرة من أمري، قضيتها في تخطيط علاقاتي أكثر من مرة وبطرق متعددة، أرتبها من حيث عدد من أعرفهم وطبيعتهم ومدى اندماجي وتشاركي في المجتمع، جربت الإنعزال التام، حيث اهتميت بما أود فعله في صمت دون أن أشارك أحداً مخططاتي إلا القليل جداً، وكذلك حاولت الإندماج في المجتمع حد الغرق فيه، كنت أصاحب الجميع وأشارك الجميع الحديث عن أشياء لا تعنيني، فقط كي لا أكون في نظر نفسي "انطوائياً" خاصة أنني أميل إلى الهدوء، وتفيدني عزلتي حيث أعمل فيها ما لا أستطيع فعله في غيرها..وبكل صدق لم أرتح في كلا الطريقتين.

دائماً كانت قناعة خفية في تلافيف عقلي تقول :

"هناك طريقاً وسطياً بإمكانك اتباعه عبدالرحمن وفيه ستجد ضالتك الإجتماعية التي تبحث عنها"

لعل كلماتي تلك تذكرك بمعاناتك في هذا الأمر ..ولعلك تتسائل الآن هل طريقة تفاعلي ومدى اندماجي في المجتمع مناسبين أم أنني أتبع طرقاً سلبية؟.

ما لفت نظري في كتاب "فن العيش الحكيم" عندما قال آرثر شبنهاور في كتابه "فن العيش الحكيم"

«الغبي في عزلته يئن تحت وطأة بؤسه الشخصي، بينما العبقري الموهوب يؤسس عالمه الصغير والخاص حتى ولو كان في أشد الأماكن المقفرة لتَدُب الحيوية والنشاط فيها. ففي العزلة يختزل كل واحد منا في ما عنده وفي ما يجده بداخله، أي في موارده الذاتية ولا شيء غيرها .

فالميل إلى مخالطة الناس يتناسب عكسياً عند الأفراد مع مستواهم الفكري، لذلك تجد المُتدنّين فكرياً من العامة والحمقى ميالين إلى المعاشرة الإجتماعية. فنحن والحالة هذه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما العزلة، أو الذوبان في الجماعة»

حين طبقت كلام شبنهاور على نفسي اقتنعت إلى حد ما، فكلامه منطقي رغم صراحته القاسية، لقد كنت مخطئاً في كلا الطريقتين، فحين اعتزلت الناس كانت حياتي هادئة ولا أنكر ذلك ولكنها كانت بائسة ومملة جداً، وكذلك حين اندمجت مع الناس في معظم أوقاتي لم أسترح، وشعرت أن طاقتي تستهلك سريعاً ولا أعطي اهتماماتي حقها.

لذا رأى شبنهاور أن أفضل الطرق في تأسيس عالم صغير دون اندماج كامل أو عزلة كاملة. وأطلق على من يفعل ذلك "عبقري"

ولكن ما لفت نظري أكثر وصف شبنهاور لأولئك المندمجين بكل وقتهم ومشاعرهم وطاقتهم في المجتمع والتفاعل معه بأنهم "متدنيين فكرياً"!

وسؤالي لك عزيزي القارئ: وإلى أي مدى يكون الإندماج مع المجتمع مضراً لأصحاب المواهب والمبدعين والأشخاص أصحاب المستوى الفكري العالي؟ وهل الميل لمخالطة الناس عند الأفراد يتناسب عكسياً مع مستواهم الفكري..كما أوضح شبنهاور؟