إن البشر في بداية تطورهم كانوا يعتمدون على الحواس كمصدر الحقيقة الوحيد، فما نراه هو الحقيقة وما نسمعه ونتذوقه ونحسه هو الحقيقة التي نحكم بها على العالم من حولنا، فالبشر لوقت طويل كانوا يسندون الأمراض التي تستفحل بهم إلى أمور خارجة عن الطبيعة مثل الحسد والسحر، وذلك لأنهم لم يروا مسببات تلك الأمراض على اختلافها، وبقي العالم على جهله لوقت طويل حتى ظهر العالم الإيطالي غاليليو ومنظاره الذي سمح لنا فيما بعد أن نرى مكونات أجسامنا الأساسية وهي الخلايا، ومنحنا لأول مرة فهم يفوق حواسنا، وتوالت من بعده الأكتشافات التي كانت بمثابة الفتح الذي حررنا من الخرافة، ومنحنا فهمًا لمسببات الأمراض على اختلافها.

على سبيل المثال عايشنا جميعًا جائحة كورونا، وأحد أكثر الأمور التي أثارت استغرابي في بداية الجائحة هو التشكيك غير المسبوق بحقيقة وجود فيروس الكورونا، وكمية الشائعات التي دارت حوله، والتي تورط فيها الكثير من الأشخاص من إعلاميين وسياسيين وأشخاص عاديين، وإن الاستهانة بحقيقة الفيروس والتشكيك بوجوده حتى، كلف الكثيرين خسارة أحبائهم، وعندها فقط صدقوا حقيقة وجوده وخطورته.

إنني أتفهم توق الناس عامة لتصبح الأمور من حولهم أفضل، وإن الإنسان في كثير من الأوقات يفضل أن يتجاهل حقائق كثيرة ليست علمية فحسب؛ لأنها قد تؤلمه، حقائق مثل أن معظمنا سيعايش فقد والديه، أو أن الشخص الذي تحبه سام بالنسبة لك، ولا يقدر هذا الحب أو يبادله، نفضل القتال في معارك خاسرة ومحسومة، لأننا نأمل أن تكون الحقيقة خاطئة، وهذا يكلفنا الكثير بلا شك، ولكنني أدرك أنه من الصعب علينا أن نتمكن من مجابهة الحقائق دائمًا، فالحقيقة مؤلمة في معظم الأحيان، ولذا فنفضل تأجيل إدراكها.

أعتقد أننا اليوم في وقت نصفع فيه بالحقائق حول العالم وحول أنفسنا كضريبة للانفتاح والتقدم، وأتساءل ما الذي قد يمدنا بالجرأة لكي نكاشف الحقائق عوضًا عن تأجيل إدراكها؟

أم أننا لا زلنا عالقين في مرحلة نحتاج فيها أن نلدغ من الحقائق على اختلافها حتى نعيها وندرك خطورتها؟