في عالم متنوع متعدد الطباع و الإختلافات و التوجهات ، قد تكون أنت الشخص الوحيد في مجتمعك الذي تهمه معرفة حقائق الأشياء و التحقيق في الواقع و المعطيات و القيم ، ببساطة لأن غالبية الناس و منذ القدم لا تهمهم معرفة الحقائق بقدر ما يهمهم جلب الأمان و السعادة لأنفسهم بغض النظر عن مدى منطقية و حقيقية الإعتقادات التي يعتقدونها ، و لذلك فهم باحثون عن أسباب القوة و الثروة و يقفون و يصطفون وراء الأقوياء رغبة في الأمن و الأمان ، و لذلك نادرا ما تصادف أشخاصا باحثون مستقلون عن الحقيقة ، لأن الناس تتمسك بالمألوف و بالقديم و المتوارث و لا يهتمون و ربما لا يدركون أصلا مقدار منطقيته و حقيقيته و قابليته للتصديق ، فالمهم عندهم أنه موروث عن الأسلاف و تعتنقه الأغلبيات ، و قد أخبرنا التاريخ كثيرا عن أشياء و اعتقادات خرافية كان يعتقد فيها القدماء ظنا منهم أنها جالبة للأمان و الحظ و لاحقا أثبت تطور العقل البشري وهميتها ، و حتى اليوم لا تزال بعض التجمعات البشرية تعتقد و تؤمن و تعيد تكرار نفس الخزعبلات القديمة ، و هذا دليل واضح على أن البشر لديهم قابلية لاعتناق أي شيء بغض النظر عن منطقيته و ماهيته فالمهم هو أنه يشعرهم بما يرغبون بجلبه لأنفسهم من الأمان و السلام و السعادة و البهجة و الحظ الجيد ، و ما تلك الوسائط و الطقوس إلا كالأصنام يعتقدون فيها ، لأن السر كله في الجوهر الداخلي ، يمكنك الآن أن تقرر و تنوي و تدعو الخالق لكي يجلب إليك السعادة و الرضى و القبول و القناعة من دون أن تحتاج إلى وسائط بينك و بين ما ترومه من سعادة نفسية و ثراء روحي متحرر من التعلق بالمادة و المتاع ، إذا رضيت و آمنت بأنك لا تحتاج إلى الكثير لكي تكون سعيدا فإن ذلك سيتحقق طالما أنك راضي و تستشعر لذة السلام و القبول و القناعة و بساطة العيش ..
قد تكون أنت الوحيد الذي يبحث عن الحقيقة و العدالة !
المشكلة في اعتبار أن البحث عن الحقيقة والاستقلالية في التفكير استثناءًا بدلاً من القاعدة، وهو ما يمثل تحديًا في بناء مجتمع يقوم على المعرفة والفهم العميق.
لذلك أرى أنه من الضروري تعزيز ثقافة الاستقلالية الفكرية وتشجيع الناس على التفكير بشكل نقدي وتحليلي، بدلاً من الانجذاب للمعتقدات الجماعية دون تفكير.
فلو فهم الجميع الواقع والمعرفة الحقيقية فبهذا الشكل سيساهمون في بناء مجتمع أكثر تطورًا وازدهارًا، يتمتع الأفراد فيه بقدرة أكبر على اتخاذ القرارات الصائبة وتحقيق الرضا الداخلي الحقيقي.
رغم أهمية ومنطقية الطرح الذي تناولته حضرتك لكن ألا ترى أن وضع غالبية الناس في كفة الجهل والاتباع الأعمى مقابل أن أكون وحدي في الكفة المناقضة هو إجحاف بحق الغالبية؟ وما الذي يضمن أنني أو أن المتلقي هو من الصنف الآخر فلا أحد يعترف بأنه جاهل وكلنا ندعي العلم. طبعًا ذلك مجرد تساؤل!
هذا كان منطق الكثير من الفلاسفة ومنهم ديوجين الذي كان يسير في طرقات روما يبحث عن الرجل الفاضل! وفي منطقه نوعا ما تحليل قوي لأنه لم يقل أنه الرجل الفاضل بل هو يبحث عنه وأعتد أن الكثير اليوم يظن نفسه الراجل الفاضل وأنه الباحث ولكن من الأفضل أن ينتهج وجهة ديوجين بأن يعترف أنه باحث وهذا لا يقلل من الأخرين ما دمت لم تصدر أحكاما ضد الجميع.
الطرح يؤكده التاريخ و الشواهد و الإحصائيات و الواقع المتلفز ، يحق لك أن تعتقد ما تشاء أستاذ وائل ، و لكن إذا قمت بدراسة تاريخية موضوعية محايدة و تراعي فيها الحقائق بالضبط لا الروايات و الأقوال ( لأن قول الشخص عن شيء ما مثلا لا يعبر عن حقيقة ذلك الشيء بالضرورة ) .. إذا كنت ممن يعرفون المعنى العميق للحقائق ستلاحظ و تدرك بوضوح أن الأغلبية قد عاشت على ضلال في معظم العصور التي مرت من قبل ، إذا لم تلاحظ ذلك و عجزت أن تصل إلى النتيجة التي تعتمد على التحقيق الحيادي ، و كنت ممن يفضلون الإعتماد على المنقولات و الحل السهل الواضح فأنصحك بقراءة ما يقوله القرآن الكريم عن الأكثرية و عن القلة ..
أنا معك بأن الأغلبية هم دائمًا الأكثر جهلاً وعنادًا واتباعًا بلا دليل وقد جاء وصفهم كثيرًا في القرآن بتلك الصفات من قبيل "ولكن أكثر هم لا يعلمون، ولكن أكثرهم لا يعقلون، ولكن أكثرهم للحق كارهون، ولكن أكثرهم يجهلون..." لكن أنا تعقيبي على نقطتين الأولى هي المبالغة في تلك الأغلبية بحيث تكون الكل إلا واحد والنقطة الثانية هي أن الاستثناء الوحيد هو صاحب تلك النظرية وما أعنيه هنا هي النظرة الفوقية لكن أعود وأقول لك بأن طرحك صحيح ونصادف كثيرًا من الناس بتلك العقليات والأفكار واعتراضي الوحيد هو على التعميم من جهة والتضييق من جهة أخرى.
هل طرحي فيه تعميم و تضييق ؟ رغم كوني قد أدرجت أداة ( قد ) و التي تعني أن ما طرحته ليس وصفا ثابتا و كأنه يعبر عن حقيقة لا تتغير ، و لكنه يعبر عن شيء ما حصل و لفترات معينة على الأقل يكون فيها وعي الناس متدني و منطقهم مغيب و ضعيف جدا لا يشابه المنطق الصحيح الذي حمله شخص واحد أو لنكن أكثر تخصيصا و هو ما تحمله أقليات و نخب صغيرة من المثقفين و العلماء الذين استخلصوا و اجتهدوا في الوصول إلى فكر أكثر عدالة و دقة ..
المسألة مسألة علم وجهل، كلما تفشى الجهل كان إيمان الناس بالباطل من الموروثات والمعتقدات، والعكس بالعكس، فبالعلم يبحث الإنسان عن الحقيقة ويتشكك في ما يخالف المنطق السليم، وواقعنا الآن أفضل من واقع من سبقونا، ففي عصر الإنترنت، أصبحت العلوم والمعرفة متاحة لكل باحث عنها، لكن حتى الإنترنت لن تنفع إذا لم يعرف الإنسان كيف يستخدمها، ولم يكن لديه القدر الكافي من العلم للبحث بمنهج سليم.
توفير المنهج السليم و إعطاء نتائج محققة دقيقة عبارة عن [ خطوات ] لا يستطيع إجراءها أي شخص كان و لا يستطيع عليها سوى المفكرون المقتدرون الذين يفكرون بعمق شديد و يرصدون أدق التفاصيل في الحياة ، و يطلقون عليهم ( الأشخاص ذوي النظر الثاقب و ذوي الرأي الحاد و ذوي الحكمة و البصيرة و الوعي الواسع و هم أشخاص تجمعت عندهم أسرار و معلومات كبيرة جدا محققة باستعمال عقولهم الناقدة المقارنة التي تستطيع كشف الحقيقة من الزيف .. )
بالضبط كما أوضحت، عملية البحث عن الحقيقة ليست سهلة، وتطلب صفات ومهارات معينة عند الفرد، لذا لا يمكننا لوم العامة من الناس عن عدم بحثهم عن الحقيقة، لأنهم بالنهاية لا يملكون هذه المهارات، الفيصل فقط في أن الأشخاص المؤهلين للبحث عن الحقيقة أن يكملوا رسالتهم دون تدليث أو تغيير للحقائق وفقا لتحيزات شخصية أو ميول
صحيح أنّ البحث عن الحقيقة قد لا يكون أولوية للجميع، لكن ذلك لا يعني عدم وجود أشخاص يبحثون عنها بجدّ و مثابرة، ويُعدّ التمسك بالمألوف و القديم ظاهرة طبيعية، لكن ذلك لا يعني عدم وجود رغبة في التغيير و التطور لدى بعض الأشخاص، كما أنّ التاريخ مليءٌ بالخرافات و المعتقدات التي لم تصمد أمام اختبار الزمن، لكن ذلك لا يعني أنّ كلّ ما هو موروث خاطئ، فبعض الموروثات تُمثّل قيمًا إنسانية إيجابية تستحقّ الحفاظ عليها، وقد يلجأ بعض الناس إلى الوسائط و الطقوس كطريقة للشعور بالأمان و الراحة، لكن ذلك لا يعني أنّ هذه الوسائط ضرورية لتحقيق السعادة، كما دعني أُؤكّد لك فتحي على أنّ السعي وراء الحقيقة و المعرفة لا يتعارض مع البحث عن السعادة و الأمان، بل إنّهما يكملان بعضهما البعض.
نعم أوافقك على ما تفضلت به أستاذ محمد ، إن السعادة و الأمان مهمان و مطلبان إنسانيان و هما منشد و مقصد كل بشر و لكن المذموم هو القيام بتعتيم الحقائق و طمسها بحجة أنها تخالف السعادة و الأمان ( سأعطي مثالا تشبيهيا و هو كذلك الشخص الذي تعود على أن يستمد سعادته من البقاء في وضع مظلم ، و هو الشخص الذي إذا طلعت عليه الشمس يلعنها و يعتبرها كحقيقة ضارة و غير مرغوبة و يظن أنها جاءت لكي تحرمه من سعادته ثم يقرر أن يتخلص منها عن طريق حجب نفسه عن نورها أو الهرب إلى مكان مظلم ، و لكن ذلك الهروب و ذلك اللعن لا يجعلان الشمس تختفي أو تزول ، لأن الشمس حقيقة و حتمية و هي لم تأتي لكي تؤذي ، و بالتالي فإن الأذى لا يأتي إلى ذلك الشخص من طرف الشمس بل الأذى حصل بسبب أن الشخص قد تعود و خالط الظلام طويلا و اعتاد عليه حتى ظن أنه لا توجد حقيقة أخرى غير الظلام ، و لذلك فإن اعتقاد الشخص أن الشمس هي مصدر الضرر هو اعتقاد خاطئ ، و لو أنه قرر التعود على الشمس فإنه يستطيع العيش و سيتقبل حقيقة الشمس حتى لو كان غير مضطر إلى التعايش معها ، نحن نعترف بحقيقة وجود الموت و ذلك لا يعني أننا مطالبون بالسعي إلى الموت لأن ذلك شيء يعاكس غريزتنا و حبنا للحياة و العيش ) ، فالحقيقة تشبه الشمس تنفعنا و لكن بشكل غير مباشر ، لأننا لو اقتربنا منها سنحترق ، و لكنها تنفع مزروعاتنا و أجسادنا ، هناك الكثير من الأشياء و الحقائق التي تنفعنا من بعيد أو من وراء ستار ، و لكننا إذا اقتربنا منها سنتضرر و نحترق ، فجمال بعض الأشياء يكمن في تقبلها كما هي عليه ..
التعليقات