"أمر جليل أن تكتب عن أبيك، لكنّ الأجّل من ذلك هو أن تخترعه من جديد، أن تقابله وتدعوه للمقهى فتسأله عن خياراته في الحياة وأسبابه وخلاصات عمره..لا مكان هنا للفقد أو الدمع أو الحنين، ولا مكان للذاكرة...الأرض كلها ملعب للخيال..أن يكون عمرك ثلاثين عاماً وعمر أبيك ثلاثين عاماً، وتجلسان للحديث في زمن لم يعرفك هو فيه، لم ينجبك حتى، أليست هذه إحدى صور الجنة"؟
هكذا حاول الكاتب الأمريكي بول بنجامين أوستر في كتابه (اختراع العزلة) أن يتخيل علاقته بأبيه، في محاولة لتخليد ذكراه، بعد أن كان خبر وفاته كوقع الصدمة عليه؛ حيث عاد لبيت والده مفتشاً في أغراضه، واصفاً شعوره وهو يفعل ذلك، حيث يقول:
"لا شيء أكثر رهبة من مواجهة أغراض رجل مات، فالأشياء تهمد أيضاً، فمعناها كامن في دورها خلال حياة صاحبها وحسب!، إنّها هناك في مكانها لتقول لنا شيئاً، وكأنها بقايا فكرة، كرموز الخلوة التي يتخذ فيها شخص قراراته، حيث أشعر وأنا أفتش فيها بأنّني دخيل، فكلّما فتحت درجاً أو دسست رأسي في خزانة مثل لص يفتش أماكن سريّة في عقل رجل!!، يلازمني أثناء ذلك إحساس بأنّ أبي سيدخل عليّ بغتة، ليسألني ماذا تفعل بحقّ الجحيم؟ ذلك أنني لا أملك الحق في انتهاك خصوصيته هكذا"
أتعلمون أين المفاجأة؟، إنه شعور الخذلان حين اكتشف أوستر بأنّ والده لم يصنع مع عائلته الذكريات!، كان دائم الغياب حتى اعتاد الجميع على عدم وجوده، إنها العزلة التي فرضها الأب على نفسه فانفصل عن عائلته ليكون حضوره وغيابه سيان، الأمر الذي جعل كاتبنا يفهم عدم بكائه حين مات والده، وفي ذلك يقول:
"على اعتبار غيابه خصيصة جوهرية لوجوده، لم يكن صعباً على العالم استيعاب حقيقة غيابه الأبدي!، لقد قامت طبيعة حياته بتهيئة العالم لموته"!.
برأيكم، ما الأصل في علاقتنا مع مَن نحبهم; أن نترك لهم ذكريات تجعلنا أحياء في قلوبهم، أم نتجنب صناعتها حتى لا نؤلمهم حين نرحل؟
في كتابه لم يتوّقف الكاتب عند عزلة والده وحسب، بل بيّن بأن والده ساهم في انعزال الابن أيضاً؛ حيث يقول:
"أدركت أنني حتى وإن حققت ما كنت آمل، فإن نظرة أبي نحوي لن تتغير. سواء نجحت أو فشلت، لن يحمل الأمر أيّ معنى خاص بالنسبة له!، لم أكن مميزاً عنده بأي أمر أحققه، هو لا يعرف سوى أنه أبي وأنني ابنه، وهذا يعني أن تصوره عني لن يتغير، وأننا وقفنا في علاقة لا تتحرك، مقطوعين عن بعضنا في جهتين مفصولتين بجدار"
هذا الرجل البعيد عن عائلته كان سحر تأثيره إيجابياً على الغرباء لأنه المساند والصديق لهم، فيرون منه جانباً لم يعرفه أبناؤه، صدمة تسببت في عزلة أوستر لأنه لم يفهم كيف يكون والده عنه غريب بينما هو للغرباء قريب؟!.
أيكون سبب خذلان من نحبّهم مبرراً لمحاولة اختراعهم من جديد كما قال أوستر في المقدمة؟
وأنا أقرأ الكتاب تذكرت وصيّة أبي العلاء المعرّي بأن يكتب على قبره "هذا ما جناه عليّ أبي وما جنيتُ على أحد"!!، لأتسائل، كيف لتأثير الأقربين السلبي أن يكون سبباً لاختراع عزلة نهرب إليها حين نجد أنفسنا غير محاطين بالاهتمام؟
بعد أن تساهموا معي في أفكاركم، أنصحكم باقتناء الكتاب لأنه يستحق أن يكون في واجهة مكتباتنا الصغيرة.
التعليقات