لقد أخطأ ديكارت خطأ شنيعا: العقل ليس أعدل الاشياء بين الناس كما يقول

أنا أرى أن مقولة ديكارت “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس” تحتاج إلى توضيح وتحليل من منظورين: منظور تاريخي ومنظور نقدي.

من الناحية التاريخية، يجب أن نفهم مقولة ديكارت في سياقها الفكري والزمني. فديكارت هو فيلسوف من القرن السابع عشر، يعتبر مؤسس الفلسفة الحديثة والعلم الحديث. ديكارت كان يهدف إلى إيجاد أساس موضوعي وموثوق للمعرفة، يتجاوز الشك والخطأ والتباين بين الآراء. لذلك، ابتدع ديكارت طريقة التفكير المنهجية، التي تقوم على شك في كل ما يمكن شك فيه، حتى يصل إلى حقائق ثابتة وواضحة ومحددة. وأول هذه الحقائق هو وجود العقل نفسه، الذي يشك في كل شيء. فديكارت قال: “أنا أفكر إذًا أنا موجود” (cogito ergo sum).

بالنسبة لديكارت، العقل هو المصدر الأول والأخير للمعرفة، فهو يمتلك قدرات عقلية مثل التصور والحساب والاستدلال والحكم. وهذه القدرات هي مشتركة بين جميع البشر، بغض النظر عن خصائصهم الجسدية أو الثقافية أو التاريخية. فديكارت يعتبر أن كل إنسان يولد بعقل صافٍ وطبيعي، يحتوي على أفكار واضحة وصحيحة، تسمى “الأفكار المولودة” (innate ideas). وإذا استخدم هذا العقل بطريقة صحيحة، فإنه يستطيع أن يصل إلى المعرفة المؤكدة والعامة. لذلك، ديكارت يقول إن “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس”، لأنه يرى أن كل إنسان قادر على التفكير بطريقة عقلانية وموضوعية، إذا اتبع طريقته المنهجية.

من الناحية النقدية، يجب أن نسأل عن صحة وصلاحية مقولة ديكارت من منظور حديث. فهل حقًا كل إنسان يمتلك عقلاً متساويًا في قدراته؟ هل حقًا كل إنسان يستخدم عقله بطريقة عقلانية وموضوعية؟ هل حقًا كل إنسان يصل إلى نفس النتائج والحقائق عندما يتفكر في الأشياء؟

قدمت لنا يا خلود وجهة نظر قوية جداً ومحتملة .

فروني ديكارت يعتبر من أبرز الفلاسفة في التاريخ، وكان له تأثير كبير في فلسفة العقل والمعرفة. ومع ذلك، يجب أن نفهم أن الفلاسفة والعلماء ليسوا معصومين من الخطأ، وآراءهم قد تكون محدودة أو قد تتعارض مع آراء الآخرين.

بالنسبة لمقولة ديكارت "العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس"، يُمكن أن نراجعها بتفكير مستقل وننظر إلى الحقائق المتاحة حول التنوع الإنساني. من الواضح أن الناس يختلفون في القدرات العقلية والمواهب والقدرات الذهنية.

فهناك عوامل عديدة تؤثر في القدرات العقلية للأفراد، بما في ذلك الوراثة والبيئة والتعليم والخبرة. لذلك، فإن تصنيف الناس بأن لديهم "قدرات عقلية متساوية" قد يكون مبالغًا فيه بعض الشيء.

وبالطبع، هناك أشخاص غير عاقلين بسبب العوامل الوراثية أو الأمراض النفسية. يمكن أن يؤثر أيضًا التعليم والظروف المحيطة على قدرة الأشخاص على استخدام عقولهم بطريقة فعالة.

بالنظر لما ذكرته حول العقل والإبستمولوجية، قد يكون ديكارت قد اعتبر العقل وسيلة لاستكشاف المعرفة وفهم العالم من خلال التفكير المنطقي والتحليل. وهو ينظر إلى العقل بشكل فعال كأداة للتفكير والاستنتاج وليس بالضرورة للتعبير عن الإبداع أو المعرفة العميقة في جميع المجالات.

لا أرى أن الأمر يمكن رصده من هذه الزاوية أصلًا. ففكرة العقل لم تعد مناسبة للصياغة العصرية الحالية للمنطق الرياضي، لأن ذكاء الآلة تعدّى حدود العقل البشري في مثل هذه الأمور سواء شئنا أم أبينا. علينا التحلّي بالمزيد من التواضع فيما يتعلّق بالعقل البشري وكيفيّة التعامل معه، لأن تناول منطقه أو آلية تناوله للأشياء ورصدها كحقيقة مطلقة هو خطأ جسيم، لم يقع فيه المفكّرين والفلاسفة وحدهم، بل وقعت فيه مدارس فلسفية وفكرية برمتها.

المسألة ليست في وجود العقل أما لا برأيي، أو في تساوي العقل بين الناس، أنا مثلاً أومن بأنّ مقولته صحيحة مئة بالمئة، ولكن هل كل الناس فعلاً تستخدم عقولها بذات الطريقة والحدّة؟ إذاً المسألة متعلّقة بالاستخدام لا بالوجود، وجود العقل لا يحفّز وجود البحث والانتاج، قد يكون العبقري أحمقاً بنظرنا، لمجرّد بأنّه لم يستخدم عبقريته، هديّة غير مستخدمة أو مفتوحة.

الآن تأتي هذه المسألة، إذا كان العقل غير مستخدم من قبل الناس، فلماذا؟ أعتقد أنّ الأمر متعلّق بالبيئات بالدرجة الأولى، البيئة والحاجة هي التي تحفّز العقل على الاشتغال، في بيئات عربية مهمّشة وليس للإنسان حتى ما سعى تغدو كلمة عقل وذكاء وانتاج ضرب من ضروب إضاعة الوقت، ولذلك في حال نقلنا ديكارت نفسه مثلاً إلى سوريا سوف يُدرك جيداً بأنّ عقله لا يساوي شيء في هذه البيئة وهو عاجز تماماً عن إحداث أي تغيير.

لذلك أومن أنّ العقل عطيّة متساوية بين الجميع، ولكن للبيئة، أي الظرف المكاني والزماني أهمية ودور كبير، هذا نراه في المهاجرين من سوريا إلى ألمانيا، فجأة يحقق نسبة كبيرة منهم إنجازات خارقة، ما الذي حصل؟ لا شيء، فقط غيّرنا البيئة، فوُجِد العقل، أو وجدت الحاجة لاستخدامه.

لا يمكن الجزم بأن كل البشر يملكون نصيباً متساوياً من العقل. الفروق في القدرات العقلية بين الأفراد قد تكون ناتجة عن الوراثة والتربية والتجارب الحياتية.

لكن ما يمكن أن يجعل كلام ديكارت منطقياً وعملياً هو النظر إلى السياق الزمني والاجتماعي لفترة عصره. في زمن ديكارت، كانت العقائد الدينية والفلسفية تؤثر بشكل كبير على التفكير والمفاهيم. قد تكون تصريحاته عن تكافؤ العقل للجميع هي نتاج لعصره والظروف التي عاشها.

أعتقد أنه من المهم التمييز بين القدرات العقلية الأساسية التي تمكن الإنسان من البقاء والتكيف مع البيئة والتي يتشارك فيها الجميع، وبين التطوير الإضافي للعقل الذي ينطوي على الفلسفة والنظريات والتفكير المتقدم.

قد يكون ديكارت قد أخطأ في العبارة التي ذكرها بالفعل، حيث أنه بالطبع يوجد تفوق عقلي لدى الأفراد، ولا يمكن أن يكون جميع الناس متساوين بالفعل في قدراتهم العقلية. هذا ينطبق أيضًا على المعرفة والثقافة والتعليم الذي يؤثر في تطوير القدرات العقلية.

ومن الأمور التي يمكن أن يتسبب فيها انحياز ديكارت هو اعتماده بشكل كبير على التفكير المنطقي والفلسفي كمؤشر للعقلانية، دون إيلاء اهتمام كافٍ للذكاء العاطفي والاجتماعي والعملي. قد يكون لدى الناس قدرات متنوعة تعكس مجموعة واسعة من المواهب والقدرات البشرية.

على أي حال يمكنني القول مطمئناً أن مقولة ديكارت هذه قد تحمل بعض الصحة من حيث النظرة العامة للعقل ودوره في الحياة، لكنها قد تكون محدودة عند تطبيقها على الأفراد بشكل مباشر. يمكننا تحسين التفاهم والتقدير لقدرات الآخرين من خلال التواصل والتفاعل الإنساني الصادق والاحترام المتبادل لتنوع الفرد وتميزه.