نستودعك الله يا أنس،

رحيلك جرحٌ لا يلتئم، لكنه ليس جرح الحزن على موتك، بل جرح الفقد لأملٍ كنت تمثله، وصوت من غزة كان يملأ الآفاق صدقًا وجرأة. لقد أراحك الله من دنيا قاسية، وأخرجك من أرض فاسدة ظالمة، أرضٍ أثقلت قلبك بخيبات البشر، كما أثقلت قلوب فلسطين كلها بجرحها العميق.

بعد رؤية مشاهد الاستبداد، والتصرفات البشعة الخالية من الإنسانية والرحمة، أدركت أن هناك من لا يستحق أن يسمى بشرًا ولا حتى حيوانًا، لأن الحيوانات أرحم منهم. لقد انتُزعت من قلوبهم الرحمة، لكن عذاب الله هو العَذَابٍ غَلِيظٍ، فموعدهم نار أشد من النار، وجحيم فوق الجحيم. هؤلاء لا حق لهم أن يمحوا أحلام الأطفال… لا، فهم ليسوا أطفالًا كما نتصور، بل هم أكبر منا ومنكم؛ شهدوا ما لم نشهده، وعاشوا ما لم نعشه. ترى الأخ أبًا، والأخت أمًا، والطفل شابًا بمئة بل بعشرات الآلاف من شبابنا الجبناء.

يا أنس، كم من طفل – إن بقي هناك أطفال أحياء – كان يراك بطلاً يواجه الطوفان، وقدوةً تمشي على الأرض، ونورًا يبدد ظلمة القهر. وكم من قلبٍ في غزة كان يستمد منك الصبر والعزم. أما أهلك فقد فقدوا أبًا وأخًا و سندًا، قد أفنى عمره في الدفاع عن أرضه وفي نقل الحقيقة للعالم، على أمل أن ينهض من في مجالسهم الوثيرة أولئك الذين يلبسون ثوب "الرئاسة" زورًا وبهتانًا. لكنك كنت تنادي على قلوب ميتة، على خنازير لن تغادر زرائبها، ومع ذلك نجحت في أن تطرق أبواب القلوب العامرة بالرحمة.

رحيلك سؤال مؤلم....إلى متى سيطول العناء؟ هل سنخضع؟ هل سنكتفي بالمشاهدة؟ هل سننشر على مواقع التواصل الاجتماعي ونظن أن ذلك كافٍ؟ لا، فذلك لا يساوي ذرة مما يعيشه أهل فلسطين. أتمنى أن نستيقظ، أن نخرج من أقفاصنا، نضع هواتفنا جانبًا، ونحرك أقدامنا. إلى متى سنظل مكتومين، لا صوت ولا حركة؟ هل حتى تنتهي فلسطين، أو يُقتل كل الأطفال؟ هؤلاء الخونة لم يتركوا بيتًا إلا ويتمّوا أطفاله، وأرملوا نساءه، آسفة بل لم يتركوا بيتًا ولا أطفالًا ولا نساءً ولا رجالًا.... حسبنا الله ونعم الوكيل. لا أبرّئ نفسي، فأنا أكتب وأنشر من خلف شاشة باردة، كجبان يختبئ من المعركة، وأكره ذلك في نفسي.

في فلسطين، ما يحدث يفوق الوصف، مشهد لو حملته الجبال لتصدعت إنهم يتقاسمون أدوارًا لا تطيقها قوى البشر، لكنهم يؤدونها بثبات، لأنهم تجاوزوا حدود المعنى الضيّق لكلمة "إنسان"، فصاروا قممًا من الصبر والعزيمة. يحملون الأرض على أكتافهم، ويحملون السماء في صدورهم، ولا يسقطون، لأنهم على يقين أن السقوط ليس خيارًا.

أملي أن نتحرك، لكن… هل للخنازير أن تنهض من أوحالها؟ لا أظن. رجائي أن يرسل الله جنوده، وأن يقتص من كل يد شاركت في هذا الظلم. الحمد لله أن هناك ربًا لا يغفل، وأن الله على كل شيء شهيد، والحمد لله أن هناك جنة للثابتين، ونارًا جهنمية للظالمين والخائنين.