تأتينَ في الحُلمِ لا ميعادَ يُخبرني ولا نداءٌ سوى صمتٍ يُناديني تسيرُ في ليلِ وجداني بخُطوتِها كأنَّها القَدرُ المجهولُ يطويني أمدُّ كفّي، فتغدو الريحُ قابضتي وتذبلُ العينُ لا تبقى تُواسيني كم قد قتلتِ سكونَ الليلِ في كبدي وأيقظتِ الذكرياتِ الغُبرَ في طيني أما سئمتِ ملاحَ الحلمِ يا امرأةً تأتي وتَمضي كطيفٍ غيرِ مألوفِ؟ أما اكتفيتِ من الأوجاعِ تُشعلُها وتتركينَ رمادَ الشوقِ في نزفي؟ إني أراكِ فتغدو الروحُ منكسِرةً ويستفيقُ صدى الأيّامِ في ضعفي يا طيفُ مهلاً فإني لم أعد رجُلاً
وَما زِلْتُ أهوى…
وما زِلتُ أهوى رغمَ بعدِ الليالي حنينًا يسيلُ منَ القلبِ سَلالي فيا طِبَّ عيني ويا نُورَ عمري كأنكِ شمسٌ تُضيءُ الجبالِ كتبتُكِ سِرًّا على كَفِّ قلبي وخبأتُ عشقكِ تحتَ الخِلالِ فأنتِ التي كنتِ حلمَ الليالي وصرتِ الحقيقيةَ بينَ الخِصالِ طبيبةُ قلبٍ وبلسمُ جرحٍ وفيكِ التَداوي وفيكِ المَلالي ولكنّ قلبي وإن كنتِ طبًّا فحبُّكِ داءٌ عَصِيُّ المُحالي ويا زهرةً قد نَمَت في ضلوعي تُراقصُ نبضيَ في كلِّ حالِ أما زلتِ تذكرينَ الهوى وكيف التقينا بلا ميعادِ وكيفَ ابتسمتِ فمالتْ سمائي وخالَ
حتى أتيت
حَتَّى أتيتَ فكانَ حُبُّكَ كَوكَبًا يمحُو السَّوادَ بِنبضِهِ مُتَوَهِّجَا لمَّا نَظرتُ إليكَ طَاحَتْ أضلُعي وَكَأنَّني وُلِدتُ أُحبُّكَ أوَّلَا علَّمتَني أنّي أُحبُّ كَأنَّني ما ذُقتُ من قَبلِ الهَوى إلَّا الخَلَا فامْكُثْ بقَلبي إنَّ حُبَّكَ قد مَحا ما كَانَ في عُمري ظَلامًا مُظلِما • صلاح الدين العفيف
نصلُ الغرام
تسلّلَ السّهمُ من عَينَيكِ يا نِعَمُ فاستوطنَ القلبَ لا خَوفٌ ولا نَدَمُ مشى بسِرٍّ كأنّ الليلَ يَعرفُهُ وأغلقَ البابَ لا سَمعٌ ولا كَلِمُ فكيفَ أهربُ والنّبضاتُ ضاحكةٌ وفي شُعوريَ بحرٌ طافحٌ عَطِمُ صِرتِ البلادَ وصِرتِ الوقتَ أعرفُني حينَ التقيتُكِ لا ماضٍ ولا قِدَمُ رميتِ سهمَكِ لا قوسٌ ولا صَدىً لكنْ وقعتُ كأنّي قِصّةُ الحِمَمُ ماذا أقولُ وفي عينيكِ مملكةٌ من الحنينِ وسِحرٌ كلّهُ نَغَمُ إني أحبُّكِ... بل أخشى اعترافَ دمي فالحبُّ سهمٌ ومَن يُخفيهِ يَنهَزِمُ
حين عاد الزمن، وما عدنا
لم تكن تنوي اللقاء. خرجت من البيت كأنها تهرب من شيء لا تُسمّيه، ومشت في طرقات المدينة القديمة كمن يتبع نداءً خفيًا حتى وجدت نفسها هناك… نفس الرصيف، نفس الواجهة، نفس الضوء المائل من شمس المغيب، كأنّ الزمن دار بها دورة كاملة ليضعها في مكان الخطيئة الأولى. وقفت. كل شيء بدا مألوفًا بشكل يوجع. رائحة القهوة، أصوات الكراسي الخشبية وهي تُسحب، حتى الريح التي مرت بأطراف شالها كانت نفس الريح التي لامست وجنتيها حين قالت له: "سأرحل." لكنّ ما لم
عتمة الذاكره
يُقال إن دأبَ الإنسان أن يألف الألم كما يألف الزهر ملامسة الريح، لكن الحقيقة المُرة أن الإنسان لا يُولد إلا ليعتاد. يعتاد الخذلان حتى يغدو الطعن عادةً تتقبلها جوانحه بصمت النائحين، فلا يجزع لسكينٍ جديدةٍ تنغرس بين أضلاعه، ولا يئن لصدى الخيانة حين يهدر في أعماقه كهدير العاصفة العمياء. يعتاد الألم حتى يصبح الوجع نديمه الذي يسامره في الليالي الطوال، يؤانسه إذا جفاه الرقاد، ويواسيه إذا أعرضت عنه الدنيا بقسوتها المستعرة. يعتاد أن تُسرق أحلامه كما تُسرق السنابل في موسم
"سُفْرةُ اللا يقين"
تنهض من صمت المواقد، كأنّها أنشودةٌ عتيقةٌ سقطت من فم الجدّات حين جاع الفجر. تفترش الطبق كسُلطانةٍ تهمس للملعقة أن انحني، ويُسبغُ المرقُ على الكَفِّ هيبةَ التتويج. أذوبُ بين أصابع الوهلة، كمن وجد نفسه في لقمةٍ مشتهاةٍ لم يذقها، وأُطاردني فيها كظلٍّ هائمٍ في بهو الوليمة. يا شهقةَ العجين حين يلامس صفيحَ الأسرار، ويا ترفَ الرائحة حين تخترق حدود الكتمان، هل كنتِ غذائي، أم تأويل جوعي؟ أأُلتهمكِ أم أنكِ من يقضم هذا السُّهاد على مهل؟ ما عدت أدري، كلانا يأكلُ
إلى نفسي
يا أنا... يا من خُلقتَ من صبرٍ لا يفنى، وكبرياءٍ لا يُنكسر، يا مَن خُلطتَ من نارٍ لا تحرق، بل تُنير، ومن صخرٍ لا يتهشّم، بل ينهض. يا من إذا خاصم القدر الناسَ، وقفْتَ له وجهًا لوجه، لا كسائلٍ يتضرّع، بل كفارسٍ أعزل، لكن فيه ما يغني عن السيف والدرع. أنا لستُ ممن يسيرون في ظلال الآخرين، ولا ممن يتكئون على أكتاف المديح، أنا ابن نفسي، وربيب تجربتي، صنعتُني الأيام، لا الألسنة، وعرفتُ ذاتي في الغياب، لا في الضجيج، سلكتُ
يا خَيبَةَ العُمْرِ
يا خَيبَةَ العُمْرِ في مَن غَدَرْنا ظَنَّتْ بأني أَنْسى وأَغْفَى يا كَذِبَةَ العُمْرِ هل كُنتِ طَيْفًا أَمْ كُنتِ وَهْمًا يَمضي ويَخْفَى نادَيْتُ وَجْدًا يَسْري بِعَيْني فَرَّتْ كَضَوْءٍ في اللَّيْلِ يُطفَى أَعطَيْتُ قَلْبًا ضاعَ انْتِظَارًا ضَيَّعْتِ وَرْدِي والسَّقْيُ جَفَّى كَمْ قُلتِ حُبًّا كُنتِ وَعْدًا ثُمَّ اسْتَدَرتِ وَصُدْتِ تَحْفَى أَكْتُبُ عَنْكِ واللَّيْلُ يَشْهَدُ يا لَيْتَ وَعْدَكِ كانَ يُوْفَى أَكُنتِ تُحْسِن وَجْهَ الهَوَى أَمْ كُنتِ تَعْرِف كَيْفَ تُخْفَى أَكُنتِ حُبًّا عَاشَ فِيَّ أَمْ كُنتِ دَرْسًا كَانَ يَكْفَى قُلتِ الهَوَى يَحْيا بِقَلْبِي ثُمَّ ارْتَحَلْتِ
"يا كمدي… أما اكتفيت؟"
يا من سكنتني سُكونًا لا يُشبه السكون، يا من تقاسمتَ مع أنفاسي الشهيقَ والزفير، ما الذي بيني وبينك؟ أيُّ عهدٍ جهلتُ أني عقدتُه معك؟ أيُّ ذنبٍ اقترفته روحي لتُبتلى بك هذا البلاء الطويل؟ تقدّمتَ نحوي كغيمٍ خادع، تظاهرتَ بظلٍّ، فكنتَ بردًا، وجفافًا، وموتًا بلا قبر. أما اكتفيت منّي؟ ألم يرهقك مقامي الكسير؟ ألم يحرّك فيك حزني الصامت، وعُزلتي التي تُدمي؟ كلما رمّمتُ ما انكسر، عدتَ بهدمٍ أشدّ، وشتاتٍ أقسى، كأنك تغار من نهوضي، وتخشى أن أراك مجرّد عابرٍ كنتَ هنا…
أُحْجِيَّةُ الوَجْدِ والانتظار
تَوَهَّجَتِ الأحْشَاءُ في قَعْرِ الجَوَى وَتَلَظَّتِ الأضْلَاعُ في وَجْدِ اللَّظَى تَجَذَّرَ الحُزْنُ بِي كَالأُصُولِ العِتَاقِ وَتَفَتَّقَتْ في مُهْجَتِي نَكْهَةُ الشَّقَا تَرَنَّحَتِ الآمَالُ في ظِلِّ غُيُومِي وَتَرَقْرَقَتْ دَمْعَاتِي بِنَزْفِ المَسَا تَدَثَّرَتْ أَحْلَامِي بِلَحْنِ التَّجَافِي وَتَبَعْثَرَتْ خُطَايَ بِنَفْثِ العَنَا عَشِقْتُكِ حَتَّى انْمَحَتْ كُلُّ أَنْفَاسِي وَصِرْتُ حُطَامًا تَنَاثَرَ فِي الرِّيَاحِ أُدَاوِي الجِرَاحَ بِرُوحِي وَدَمْعِي وَأَمْضِي وَحِيدًا كَطَيْفِ السَّرَابِ تَعَثَّرَتْ سِنِينِي فِي قَيْدِ التَّوَقُّدِ وَتَجَمَّدَتْ بَيْنَ لَهِيبِ الرَّجَا وَكُلَّمَا سَافَرَتْ فِي رُؤَاكِ أَحْلامِي تَهَاوَتْ فِي بَحْرِ التَّنَائِي دُرَرُهَا تَسَاقَطَتِ الذِّكْرَيَاتُ كَنَجْمٍ أَفَلْ وَانْطَوَى الفَجْرُ
«سُهادُكِ مِحرابُ الغِياب»
أيا عَيْنَ مَنْ سافَرْتِ عنّي كأنّما خَرَجْتِ منَ التكوينِ والإِعْرابِ وكُنتِ مَدىً للرُّوحِ قبلَ ضياعِها فَما لِيَ لا أَهْوِي سوى لأحبابِ أأُقْسِمُ أنّي كنتُ أهوى لَمحَها فَما العَيْنُ إلا وَحْيُكِ السَكْبَابِ أيا نَفْحَةً من مُصحفِ الحُسنِ نَزَّلَتْ على جَفْنِكِ الآياتُ كالألقابِ سَقَطتُ سُجودًا عندَ حافّةِ نَظْرِكِ وما بينَ أهدابِكِ المِحرابِ يُقِيمُ دُعائي كلُّ جُرْحٍ ناطقٍ ويسجدُ دمعي عندَ كلّ غِيابِ أيا فتنةَ الآزالِ إنْ مرَّ طيفُكِ تَرَنَّحَتِ الأكوانُ في الألبابِ لَعينُكِ وَقْعُ السَّيفِ إنْ لاحَ بَرقُها وفيها تُقامُ قيامةُ الأحبابِ
جراح العمر
في لُجَّةِ الذِّكرى غرِقْتُ وحيدًا وملأتُ روحي بالحنينِ المُعيدا سالتْ جِراحُ العُمرِ فيَّ كأنها طُعْنَاتُ قلبٍ قد أضاعَ الوريدا خمسٌ من الأعوامِ مرتْ كأنها دهرٌ يُعيدُ الدهرَ وجْدًا شديدا خمسٌ ولكنْ ما تَبدَّدَ حُبُّها بل زادَ في صدري احتراقًا مديدا كُنتُ أظنُّ الليلَ يمحو طيفَها لكنّهُ زادَ الحنينَ وعودا والصُّبحُ مرآةُ الفراقِ أمامَها أبكي فأرسمُ وجهَها من جديدا يا ليلُ قُل لي هل تُراها تذكرتْ أم هل محاها النسيانُ البعيدا هل نالَها شوقٌ يُمزقُ روحَها أم أنها عاشتْ نعيمًا رغيدا